د. سمير أمين يشير خطاب الاقتصاد التقليدي إلى النظام الحالي بوصفه “اقتصاد السوق"، وهذا وصف غير كافٍ بل مضلل، فهو قد يصف الاقتصاد البريطاني في القرن التاسع عشر، أو الصين في عهد دولة سونج أو مينج، أو المدن الإيطالية في عصر النهضة. وكانت نظرية اقتصاد السوق دائماً هي أساس “الاقتصاد الشائع"، وهي تلغي الحقيقة الجوهرية بأكملها، وهي علاقات الإنتاج الاجتماعية (وخاصة المِلكية بصفتها التعبير المباشر عن هذه العلاقات، والتي ترفع لمرتبة التقديس). ويحل مكانها افتراض مجتمع مكون من أفراد (هم الذين يلعبون الدور الأساسي في إعادة بناء النظام وتطويره). وهؤلاء “الأفراد" لا تاريخيين مثلهم مثل أولئك الذين منذ بدء تاريخ الإنسانية (مثل روبنسون كروزو) لهم ذات الصفات الثابتة (الأنانية، والقدرة على اتخاذ القرارات التي تخدم ذواتهم). وبناء “اقتصاد السوق" على هذه الأسس لا يعبر بصدق عن الرأسمالية التاريخية الحقيقية، بل يبني نظاماً خيالياً لا يتضمن أياً من القسمات الجوهرية للرأسمالية الحقيقية. ويكشف كتاب رأس المال لماركس الطبيعة الأيديولوجية (بالمعنى الوظيفي للكلمة) لهذا البناء للاقتصاد الشائع منذ فردريك باستيا، وجان باتيست سي، وهي ببساطة إسباغ الشرعية على النظام الاجتماعي القائم، ووصفه بالنظام الطبيعي العقلاني. أما نظريات القيمة التالية عن المنفعة، والتوازن الاقتصادي العام، التي طُورت رداً على ماركس في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وكذلك وريثتها من الدراسات الاقتصادية الرياضاتية المعاصرة، والمسماة بالكلاسيكية، أو النيو كلاسيكية، أو اللبرالية، أو النيولبرالية (والتسمية لا تهم في الواقع) لا تبتعد عن الإطار الذي تضعه المبادئ الأساسية للاقتصاد الشائع. وخطاب الاقتصاد الشائع يساعد على إنتاج وإعادة إنتاج الرأسمالية كما هي قائمة اليوم. وهي تمتدح المنافسة فوق أي شيء آخر، إذ تعتبرها الشرط الضروري “للتقدم". وهي لا تمنح هذا المديح لقيمة التضامن (رغم وجود أمثلة تاريخية على ذلك) التي تقيدها داخل حدود العمل الخيري والتعاطف. والمنافسة قد تقع بين “المنتجين" (أي الرأسماليين دون النظر للطبيعة الاحتكارية للإنتاج الرأسمالي حالياً)، أو بين العمال (بافتراض أن العاطلين أو الفقراء هم المسئولون عن أوضاعهم). وتدعم مفهوم المنافسة العبارات الحديثة (مثل الحديث عن شركاء اجتماعيين بدلاً من الطبقات المتصارعة)، وكذلك بعض الممارسات مثل محكمة الخدمة المدنية للاتحاد الأوروبي التي تعمل بتشدد على تفكيك النقابات بوصفها عقبة في سبيل المنافسة بين العمال. والاستخدام المنفرد لمبدأ المنافسة يدفع المجتمع لدعم هدف تحقيق “التوافق" الأمر الذي يستبعد أي مستقبل متخيل لمجتمع آخر مبني على التضامن. وهذه الأيديولوجية المتعلقة بمجتمع التوافق في طريقها للاعتماد في أوروبا، وهي تدمر قدرة الرسالة الديمقراطية على تحقيق التحولات المرغوبة. وهي توحي بالرسالة اللبرالية اليمينية التي تعتبر الدولة أياً كانت طبيعتها “عدواً للحرية" (مما يعني أنها عدو للمنشأة الرأسمالية الحرة)، في حين تبتعد ممارسة الديمقراطية عن التقدم الاجتماعي. يستبعد الاقتصاد الشائع بكل بساطة من تحليله المشاكل الحقيقية الرئيسية التي يفرضها انتشار الرأسمالية التاريخية في غزوها للعالم. وسنستعرض باختصار أهم هذه القضايا: في القلب من مشاكل اليوم، رأسمالية الاحتكارات المالية العامة المعولمة. لقد بلغت الرأسمالية درجة من التكثيف والتمركز لرأس المال لا مقارنة بينها وبين أوضاعها منذ خمسين عاماً، ولذلك أسميها رأسمالية الاحتكارات المعممة. والاحتكارات ليست بأي حال اختراعاً جديداً في التاريخ الحديث، ولكن الجديد هو العدد المحدود للاحتكارات المسجلة (أو المجموعات) وتبلغ حوالي الخمسمائة إذا اعتبرنا الهائلة الحجم منها فقط، وتصل إلى ما بين 3000 إلى 5000، إذا حصرناها جميعاً. وهي تتحكم عن طريق قراراتها في مجموع الحياة الاقتصادية للكوكب بل أكثر. وبذلك تكون رأسمالية الاحتكارات المعممة هذه قفزة نوعية للأمام بالنسبة للتطور العام للرأسمالية.وعادة ما يكون التفسير الوحيد المقدم لهذا التطور هو أنه ناتج عن التطور التكنولوجي، وهذا تفسير صحيح جزئياً فقط، كما أن الاختراعات التكنولوجية ذاتها تتحكم فيها متطلبات التركيز والضخامة. بل إنه في كثير من أنواع الإنتاج يكون الحجم الصغير أو المتوسط للمنشأة هو الأكثر كفاءة. وهذا هو الحال في الإنتاج الزراعي على سبيل المثال، حيث ثبت أن الإنتاج العائلي الحديث يتميز بأعلى كفاءة. وينطبق هذا على الكثير من أنواع إنتاج السلع والخدمات التي تخضع حالياً للاحتكارات التي تتحكم في قدرتها على البقاء. وفي الواقع فإن السبب الرئيسي لطلب الضخامة هو الرغبة في تحقيق أكبر ربح مما يفيد المجموعات الكبرى التي تصل إلى أسواق المال بسهولة. وكان التركيز دائماً هو رد فعل رأس المال على الأزمات الطويلة العميقة التي ميزت تاريخه. وقد حدث ذلك لأول مرة بعد الأزمة التي بدأت في السبعينيات من القرن التاسع عشر، ثم حدث مرة أخرى بعد قرن كامل تقريباً أي في سبعينيات القرن العشرين. وهذا التركيز هو الذي أدى لإسباغ الطبيعة المالية على النظام، لأنها الطريقة التي تمتص عن طريقها الاحتكارات المعممة فائض القيمة العالمي الناشئ من عملية الإنتاج، وهو “ريع احتكاري" يسمح لمجموعات الاحتكارات هذه برفع معدلات الربح. وتحصل الاحتكارات على هذه “الجزية" لمجرد سيطرتها المنفردة على أسواق المال التي صارت الأسواق السائدة أو المسيطرة. وعلى ذلك فتحويل النظام لهذه السيطرة المالية ليس نتيجة إلغاء القيود على أسواق المال، ولا هو ناشئ عن أحداث عارضة (مثل قضية الرهون العقارية)، التي يحرف إليها الاقتصاد الشائع والخطاب السياسي المصاحب له الاهتمام عادة، بل هو المتطلبات الضرورية لإعادة إنتاج الاحتكارات المعممة. أو بعبارة أخرى، إلى أن يجري تحدي الطبيعة الخاصة لهذه الاحتكارات فلا معنى للحديث عن “تقنين" أسواق المال. ورأسمالية الاحتكارات المعممة ذات الطبيعة المالية هي في الوقت نفسه معولمة. وهنا أيضاً نلاحظ أن العولمة ليست صفة جديدة للرأسمالية، فقد كات دوماً معولمة. بل إنني قد جادلت دائماً بأن الرأسمالية المعولمة كانت دائماً استقطابية (أي أنها توسع باستمرار من الهوة بين مراكز النظام “المتطورة" وبين تخومه المسودة). وقد حدث هذا في جميع مراحل التوسع الرأسمالي الماضية والحاضرة، وكذلك في المستقبل المنظور. وقد تقدمت كذلك بالفرض القائل بأن المرحلة الجديدة من العولمة كانت مرتبطة بالضرورة بظهور “الإمبريالية الجماعية للثالوث". والعولمة الجديدة لا يمكن فصلها عن السيطرة المنفردة للإمبريالية الجماعية على الموارد الطبيعية للكوكب، ومن هنا فإن التناقض المركز/التخوم أو باللغة الشائعة صراع الشمال/الجنوب هو أمر مركزي بالنسبة لأي تحول في طبيعة الرأسمالية كما هي قائمة اليوم. ويحتاج هذا الأمر أكثر من أي وقت مضى، إلى “السيطرة العسكرية على العالم" من جانب المركز الإمبريالي الجماعي . الميدان