"لقد عاد اليسار، وهو السبيل الوحيد لدينا للخروج من المكان الذي اغرقنا فيه اليمين، الاشتراكية تبني والرأسمالية تدمر." هوجو تشافيز إثر إعلان خسارة تشافيز معركته ضد السرطان، فاضت شوارع كراكاس ومدن فنزويلا بالملايين من الجماهير معربين عن حزنهم لفراقه ،أفجعها الرحيل المر لهذا القائد الملهم الذي أمن بقدرات شعبه فنال حبه وحمايته .فصمدت تجربته ضد كل محاولات الأقصاء والعزل. رحل تشافيز ولكنه حفر تجربة ستخلد كثيراً. أعاد لليسار توهجه وحسن ظن الجماهير به. يساراً ديمقراطياً في إيمانه بالحريات والحقوق السياسية وإجتماعياً عبر تحفيز وجر الجماهير المفقره والمعزوله في الجبال والمزارع ومدن الصفيح الى الأنخراط والتأثير والمساهمة في العمل السياسي والإجتماعي. بعد مغامرته العسكرية الفاشلة في عام 1992 ضد حكومة كارلوس بيريز قام تشافيز فور خروجه من السجن بتأسيس حركة الجمهورية الخامسة والتي تعرف اختصاراً بMRV. أعلنت الحركة برنامجها الإجتماعي والذي أكدت فيه إنحيازها التام للفقراء وأبناء الطبقة الوسطى ، هذه الشرائح التي سحقت بفعل النموذج الإقتصادي اللبيرالي الذي إتبعته حكومات التبعية الإقتصادية والسياسية المتعاقبة في فنزويلا والذي كان مرتكز سياساته التحرير الاقتصادي وتصفية القطاع العام وخفض الإنفاق العام. هذه السياسات ارسلت ب80% من الشعب الفنزويلي الى تحت حد الفقر في بلد هو الخامس من حيث الصادرات النفطية عطفاً على إمتلاكه احتياطياً نفطياً يقدر ب78 مليار برميل واكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في امريكا الجنوبية. قادت السياسات الاقتصادية وإجراءات التقشف التي إتبعتها الحكومات الفنزويلية المتعاقبة إلى زيادة حدة الفقر في البلاد. أوصلت الحكومة التي شكلها كارلوس أندريس بيريز (1989-1993) الأزمه الى قمتها . فقد شلكت حكومة بيريز من أجل إنفاذ برنامج إصلاح إقتصادي تحت إشراف صندوق النقد الدولي، تمثل في الخصخصة وتخفيض الأنفاق العام وتحرير الأسعار وتخفيف القيود على عمل الشركات الأجنبية. إلا أن فشل وصفة الصندوق قاد إلى تنامي الإستياء الشعبي ضد حكومة بيريز وكذلك ضد حكومة رافائيل كالديرا (1994-1999) ولذلك دعمت جماهير فنزويلا حركة الجمهورية الخامسة المتحالفه مع عدد من الأحزاب اليسارية والشيوعية الفنزويلية وأمنت الفوز الكاسح لمعظم مرشحيها في الإنتخابات البرلمانية في عام 1998م . وأنتخب تشافيز رئيساً لفنزويلا . تولى تشافيز أربع فترات رئاسية حيث كانت الفترة الرئاسية الأولى من عام 1999 إلى 2000 بينما أمتدت الفترة الرئاسية الثانية من عام 2000 إلى 2006 وتمت إعادة إنتخابه رئيسًا لفنزويلا في ديسمبر 2006 وكذلك فاز في اخر أنتخابات رئاسية جرت في 7 أكتوبر 2012. على الصعيد الإقتصادي تبنت الحكومة الفنزويلية نموذج إصلاحات إقتصادية طويله المدى حاولت من خلاله تجاوز نموذج الملكية البيروقراطية المركزية للدولة كما كان سائداً في الإتحاد السوفيتي السابق . نموذج يقوم على مبدأ "المشاركة" و"المجتمع التعاوني" يستهدف نقل المزيد من السلطة والثروة للفئات المهمشة دون الوقوع في نموذج الملكية البيروقراطية المركزية للدولة، ويسعى هذا النموذج لإحداث تنمية تحقق العدالة الاجتماعية، وتنقل الاقتصاد الفنزويلي إلى مصاف الدول المتطورة في أن معاً. وتقوم هذه التجربة على استخدام عائدات النفط في تأسيس وتمويل آلاف التعاونيات الصغيرة الزراعية والصناعية والتجارية التي تعمل بعدها وتنجح أو تفشل بجهدها الذاتي حسب قوانين السوق ودون إشراف الدولة المباشر، ولكن ضمن خطتها العامة للتنمية. كما أن النموذج تبنى مساعدة الدولة للعمال لشراء حصص في الشركات التي يعملون فيها لإعطائهم صوتاً في الإدارة. ايضاً اولى النموذج أهمية للقطاع الخاص ودعم رجال الأعمال الذين يعملون ضمن إطار الاستراتيجية الاجتماعية والوطنية. من أهم ملامح هذا النموذج الإقتصادي هو القيام بإصلاح زراعي حقيقي من خلال تحويل ملكية الإقطاعيات الكبيرة إلى التعاونيات والفلاحين. وأخيراً رفع نوعية القوة العاملة في البلاد من خلال محو الأمية ورفع مستوى التعليم بكل مراحله. لتنفيذ هذا النموذج في الإصلاح الإقتصادي عمدت فنزويلا إلى إحداث تغييرات واسعة في قطاع النفط تمثلت في وقف خصصة هذا القطاع بإعتباره حسب تشافيز (شريان الأمة)،لذلك قامت الحكومة بتأميم متدرج لهذه الصناعة من خلال توسيع مساهمة الشركة الوطنية للنفط في الإستثمارات النفطية وفرض نظام ضريبي صارم على المؤسسات النفطية الخاصة. هدفت سياسة تشافيز إلى جعل عائدات النفط في خدمة التنمية الاقتصادية ومصلحة الفئات الإجتماعية المهمشة عبر برنامج متكامل للخدمات الاجتماعية لا سيما في قطاع التعليم ومحو الأميه والصحة ودعم المواد الغذائية. تم تنفيذ ذلك عبر حزمة من البرامج (المهمات الإجتماعية) الممولة من عائدات النفط. مست هذه البرامج حوالي 16 مليون من سكان فنزويلا. أنفقت فنزويلا تشافيز ما يقارب 4.5 مليار دولار امريكي على برامج التعليم المختلفة. فقد تعلم القراءة والكتابة مليون وأربعمائة وستة آلاف فنزويلي،.وقد أصبح ثلاثة ملايين فنزويلي، بعد أن إستثنوا من النظام التعليمي سابقاً بسبب الفقر،جزءاً من نظام التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي. كذلك أنفذت الحكومة برنامج "الطب عن قرب" الذي مكن الفقراء من تلقى العلاج المجاني . لقت هذه البرامج إشادة واسعة من منظمات الأممالمتحدة. فنزويلا في عهد تشافيز حافظت على نسبة نمو تقارب 3% . وهي تكاد تقارب نسبة النمو في البرازيل التي يتفوق إقتصادها من جهة تنوع صادرته وأنتاجيته بينما يمثل النفط والغاز 90% من صادرات فنزويلا والتي من جهة اخرى توظف الريع النفطي في خفض التفاوت الاجتماعي بين شرائح الشعب الفنزويلي وهي في هذا تتفوق على كل دول امريكا الجنوبية بما فيها البرازيل (مقارنة نموذجي فنزويلا والبرازيل تجدد اهمية النقاش حول مهام ودور الدولة). من الإجراءات الإقتصادية الأخرى التي أقرتها التشريعات الفنزويلية تحديد ملكية الأرض المزروعة للمزارع الواحد كما عمدت التشريعات إلى إلزام ملاك الأراضي باستغلال أراضيهم، وإلا فأنها ستعطى لغيرهم من الطبقات المحرومة. كرس تشافيز لتلك الإصلاحات الإقتصادية بإنفاذ تحولات سياسية وتشريعية وقانونية صادقت عليها الهيئات التشريعة في فنزويلا وتم تضمين البعض في الدستور الفنزويلي. على الصعيد الإقليمي والعالمي قاد تشافيز برنامج تحول كبير في أمريكا اللاتينية وأعاد لليسار وجوده بعد ما نجحت الولاياتالمتحده عبر الإنقلابات والتدخلات العسكرية المباشرة وحروب العصابات في محاصرته وإقصاءه وفلحت في الإجهاز على ما تبقى منه بتحويله لمسارات التطرف والطفولية. لم تعد بلدان أمريكا الجنوبية مرتعاً للإمبريالية ولا حديقة خلفية للولايات المتحدة بل صارت الى محفز ثوري لجميع شعوب العالم. أكدت تجربة تشافيز أن عوامل نهوض المشروع الإشتراكي ما زالت قائمة وحية. وأن مشروعيته تتأسس على الأزمات العميقة التي يعيشها عالمنا بفعل الرأسمالية من فقر وحروب ونهب واستنفاد للموارد وإتساع الهوة بين شرائحه الإجتماعية المختلفة. فاضحى كل عالمنا في مهب الفقر وبات معها وبفعلها بقاء كوكبنا على المحك. آمن تشافيز بشعبه وبالإشتراكية كأفق لكل الطبقات المقهوره بلا تحديد وسبيلاً لحل كافة قضايا التخلف الإقتصادي والإجتماعي. ماذا عن النصف الفارغ من كوب التجربة الفنزويلية؟ اعتمدت فنزويلا بشكل كبير على العائدات النفطية ولم يبذل جهد يذكر لتوظيف النفط لإعادة هيكلة الإقتصاد وتنويع ايرادته بالتحفيز الفعلي للصناعة والزراعة، لذا فالإقتصاد الفنزويلي يعتبر الأقل تنوعاً في امريكا اللاتنية حيث تقوم فنزويلا تقريباً بإستيراد كل احتياجاتها من الخارج. معدلات البطالة في فنزويلا استقرت على نسبة 8% وهي تعادل نسب بعض البلدان الفقيرة في امريكا الجنوبية، وحتى هذه النسبة لا تنسب الى نمو حقيقي في قطاعات الإقتصاد الفنزويلي وإنما يعود السبب فيها إلى زيادة الوظائف في القطاع العام. كما أن القطاع العام الفنزويلي مازال يعاني من الفساد رغم الجهود وخطط المحاربة التي بذلتها الحكومة إلا أنها لم تحقق نجاح كبير وتتمتع مافيات المال والجريمة المنظمة بوجود كبير. تعدد ولايات تشافيز وإصراره على الترشح للمرة الرابعة شكك في النوايا والإتجاهات الديمقراطية للتجربة الفنزويلية رغم ان وجود شافيز في السلطة في الفترات الاربعة تم عبر انتخابات ديمقراطية مراقبة دولياً وسط اجواء تنافسية عالية من احزاب الاشتراكي الديمقراطي والديمقراطي المسيحي. قامت السياسة الخارجية لتشافيز على قاعدة عداء الولاياتالمتحدة وهو عداء تطور متأثراً لحد كبير بإصلاحات شافيز الإقتصادية التي أقصت مصالح الولاياتالمتحدة والنخب الرأسمالية المتحالفة معها. تطور هذا الخلاف بسعى الولاياتالمتحدة للقضاء عليه عبر عملائها في الداخل كما حاولت تدمير الإقتصاد الفنزويلي من خلال التأثير على ضخ النفط والتحكم في إيراداته وإضعاف العملة الوطنية (البوليفار) كما أن الولاياتالمتحدة كانت وراء الانقلاب الفاشل الذي حدث في عام 2002 ضد شافيز. تأسيساً على هذا العداء قام تشافيز بتوفير الدعم السياسي والإقتصادي احيأناً لأنظمة ديكتاتورية قمعت شعوبها وإعاقت تقدمها هذا ما يفسر علاقة تشافيز بملالي ايران وكذلك النظام في سوريا وغيرها من الأنظمة القمعية. تتعدد الأراء حول تجربة تشافيز والايام ستحكم على مدى قدرة هذه التجربة الثورية في غرس جذورها وتأمين استمرارها وأن لا تنتهى بوفاة زعيمها واختم بما قالته كريستين ريفلارت الإقتصادية الفرنسية "على صعيد تحقيق العدالة وخفض التفاوت الاجتماعي بين شرائح المجتمع الفنزويلي، حققت البلاد في عهد تشافيز نتائج أفضل من جاراتها في أمريكا اللاتينية. وحالة الحزن التي أصابت شرائح من المواطنين فور إعلأن وفاة الزعيم الفنزويلي تفسر بأن الرئيس الراحل "اتخذ سلسلة من الإجراءات ساعدت فعليا الأكثر فقرا". أن وضع الطبقات المتواضعة الجيد نسبيا كأن من الصعب أن يكون على ما هو عليه اليوم لو كان في سدة الحكم حكومة مع توجهات أكثر ليبرالية". نم قرير العين أيهاالخالد ففنزويلا قد تغيرت للأبد. مصادر المعلومات الواردة في هذا المقال: - موقع فرانس 24 وإذاعة مونت كارلو الدولية - موقع بي بي سي عربي - موقع الجزيرة الأخبارية - موقع ويكيبيديا عربي - موقع ويكيبيديا انجليزي - موقع جريدة الشرق الأوسط - رحيل هوغو تشافيز قائد الثورة البوليفارية – توفيق المديني - ثمة بديل لوصفات صندوق النقد الدولي الأنتحارية ، د. ابرهيم علوش (دراسة) [email protected]