أتدري ان من مشاكلنا الأساسية هي النظر للمواضيع من جانب واحد. الناس تتقدم للأمام ونحن نصارع المستحيلات لنعيد أمجاد أوهام التاريخ. دعنى أحكى لك حكاية الهرمزان؟. الهرمزان، هو الرجل الفارسى الذى ينسب إليه أنه وقف أمام الخليفة عمر بن الخطاب قائلا: (حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر). هو ليس رسول كسرى إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما هو شائع. فقد مات كسرى -قتله ابنه شيرويه- فى سنة 6 هجرية أى قبل سنوات من خلافة عمر. وهذا مثال بسيط لتزييف التاريخ الشائع. الهرمزان هذا كان حاكم خوزستان الفارسية -الأهواز- وقد هُزم أمام جيش المسلمين وتم أسره، ثم أسلم وعاش فى المدينة. الهرمزان تم قتله، ولكن تعلم من الذى قتله؟. قتله عبيد الله بن عمر بن الخطاب، ابن الفاروق نفسه. فلماذا قتله؟ لما قُتل عمر رضي الله عنه أخبرهم عبد الرحمن بن أبي بكر بأنه رأى الهرمزان وجفينة وأبا لؤلؤة وفي وسطه خنجر يشبه الخنجر الذي قتل به عمر. فلما سمع، خرج عبيد الله مشتملاً على السيف حتى أتى الهرمزان وطلب منه أن يصحبه حتى يريه فرساً له، وكان الهرمزان بصيراً بالخيل. فخرج يمشي معه فعلاه عبيد الله بالسيف فلما وجد حر السيف صاح لا إله إلا الله ثم أتى جفينة وكان نصرانياً فقتله ثم أتى بنت أبي لؤلؤة جارية صغيرة فقتلها، فقبض عليه وسجن إلى أن تولى عثمان بن عفان رضي الله عنه الخلافة فأستشار الصحابة في أمره فأفتى بعضهم بالقتل لأن الهرمزان كان مسلما، ومن هنا فقد توجب القصاص له من عبيد الله بن عمر ولكن البعض الآخر أفتى بالدية. وانقسم الناس، بين من يطالب بالقصاص وعلى رأسهم على بن أبى طالب، ومن يرفض قتل ابن الفاروق. انتهى الأمر بنصيحة من عمرو بن العاص لعثمان، مفادها أن مقتل الهرمزان وقع بين ولاية عمر -أى بعد قتله- وقبل تولى عثمان (الفترة الانتقالية وفق لغة اليوم)، ومن ثم فإنه -عثمان- غير مسؤول أمام الله عن القصاص. فأدى عثمان الدية من ماله لغير المسلمين الذين قتلهم عبيد الله وللهرمزان المسلم أيضا، ولذا ظلت معضلة الهرمزان. هذا (الحل) أغضب على بن أبى طالب ولم يرى فيه تحقيق العدالة. فكان كلما التقى عبيد الله بن عمر هدده بأنه كان سيقتص منه إذا كان هو الخليفة. ومرت الأيام وأستشهد عثمان، وتولى علىّ الخلافة. وفورا هرب عبيد الله بن عمر إلى الشام، والتحق بجيش معاوية بن أبى سفيان، وخاض معركة الجمل ضد جيش على، ثم خاض ضده معركة صفين فقتل فيها سنة 37 هجرية. والآن، لماذا أحكى لك هذه الحكاية؟ أحكيها لتوضيح الفارق بين الصورة المثالية التى إنطبعت في الأذهان والتي تتلخص فى: حكمت فعدلت فأمنت فنمت والصورة الواقعية السياسية البشرية. صورتان من نفس التاريخ الذي نتخيل إنه وردي فقط ولا ننظر إلي تلك البقع الحمراء الخطيرة والكثيرة التي تملأه ولا نحاول أن نتفاداها، بل نقع فيها. هذه الحقيقة موجودة وتحكيها كل كتب التاريخ والسير بلا حرج أو إخفاء ولكنها لا تلمع ولا تكاد تجد لها أثرا فى الأحاديث التليفزيونية أو المسلسلات. فهل ترى لماذا؟. دعني أجيب حسب فهمي. لأن هناك أناسا يريدون للناس أن تنظر من جانب واحد وتكون كالإمعة. يريدون رسم صورة أسطورية عن تاريخنا حذفت منها كل الصراعات والقتال والفتن لكي لا يتعلم أحد. ويقاتلون ليقاء تلك الصورة المثالية الناصعة إلى درجة غير بشرية. والله سبحانه وتعالى يقول وعلى لسان رسوله الطاهر صلى الله عليه وآله وسلم: ((قل إنما أنا بشر مثلكم)). ولكن هؤلاء البشر يريدون أن نقتنع بأنهم ليسوا بشرا وجاءوا من السماء وتفويض. يريدون لنظريتهم الثابتة: العودة بالزمن للوراء، أن تسود حتى تتجمد العقول. العودة إلى حيث كان المسلمون جميعا أخوة بلا خلاف ولا شقاق ولا ظلم كأنهم ملائكة، حيث يمكن الحاكم نفسه أن ينام بلا حراسة من فرط العدل والأمن والأمان. هو عامل نفسي خطير، نستولجيا تتحكم في الأذهان بحيث لا يبقى فى ذهن المسلمين المعاصرين سوى صورة بالغة النقاء ولا يستطيع أحدهم مس تلك الصورة بسوء ويلجم بلجامها ليسير كما يريدون. وإذا إقتنعوا يحاولون إعادة تلك الصورة بلا جدوى بالتأكيد ولو جلسوا مليون عام. والسبب لأن تلك امة قد خلت، لها ما كسبت وعليكم ما كسبتم. لقد اعتصم الفاروق بعدله فنام بلا حراسة، لكنه أيضا -نتيجة غياب الحراسة- اغتيل وهو يصلى، تماما كما اغتيل على بن أبى طالب. أما معاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص فلم يواجها نفس المصير رغم كثرة خصومهما، فلماذا يا ترى؟. لأن الزمن سار للأمام ولن تتحقق صورة حكمت فعدلت فأمنت فنمت ولو بعين واحدة فاتحة وأخرى مغمضة. حتى تكتمل الصورة، خليكم من إتباع الأوهام ولا تخلطوا السياسة بالإسلام. إنما نحن بشر، فهناك كثير من الأشرار الذي يستخدمون كل أدوات وأقلام التلوين ببراعة. وأنظروا للصورة بعينكم لا بعين التجار. والآن، أتحدى كل مسؤول أو رئيس راجل وأسد أي حاجة أن يتخلى عن حراسته ولو ليوم واحد حتى لا ترى عينه إلا النور. [email protected]