أثّروا على حياتي: (مدخل 1) تستغربون أنني قصيت زمنا طويلا أترحل بين أبوزبد والنهود (وكان ينبغي أن أترحل للمجلد ولكني لا أذكر ولكن الصورة ناصعة في مخيلتي – أو هكذا أردت لها – أمي حكت لي ما كان من أمر زيارتنا للمجلد مع أبي . كانت خالتي فاطمة صحبت زوجها بكر على حسن للمجلد حيث كان يملأ وظيفة "نائب مأمور, نائب معتمد بلغة اليوم" وسأردها في مكانها, إن شاء الله. والسبب أن تعلقي بأبي كان شديدا وأنه بذر فيّ قيما قوية صحبتني إلي يومنا هذا, . ولا أذكر رجلا أثر على طفولتي الأولى غيره, ذلك أن أعظم ما شرّبني قيم الرجولة في ما بعد لم يكن موجودا بيننا في تلك الفترة. كانت لقاوة على مسافة 106 ميلا منا (بالطريق الجوّاني) و96 ميلا , وكان بالطريق البراني, في لقاوة. تلك مسافة طويلة بمقايس ذلك الوقت , وكان السفر للقاوة فيه مشقة كبيرة, ويستغرق بين 6 إلى 8 ساعات في أحسن الأحوال, وقد يستغرق يوما وليلة أو يومين إذا كان في الخريف, عادة ما يضطرنا خور شلنقو للمبيت في العراء وحوالينا تعوي الضباع وتسعى الهوام ويلسعنا البعوض ويخفف عنا الضنك الدجاج "المُحَمّر" والطحنية والجبنه وماء من القربة صافٍ ولكنه بنكهة القطران وشيء من طعم القرظ, ولا نجد في ذلك بأسا لأن الماء كان غالبا ما يكون بلا طعم أو ملوحة ما لأنه من ماء البركة الكبيرة تمتلىء من المطر أو من بئر سطحية تجف في الصيف أو تكاد, وغالبا ما تشم فيها رائحة الخشب والأفرع "المطارق" وكانت الآبار تُقَوّى جدرانها ب" مطارق" تتخذ من شجر العرد لينة مطواعة تُصَفُّ في شكل دوائر "حلقات" داخل جُدُر البئر لتمنعها من الانهيار (الهدّام) ولم يكن الطوب يستخدم, ولا داعٍ لأن الطوب معظمه "أخضر, غير محروق" والأحمر ضياع للوقت والمال لأن تلك الآبار مؤقتة وسهلة الحفر, وكثيرا ما لا يحتاج لها أصلا لأن بركة أبوزبد "التردة" تمر بها بعض السنوات وهي ممتلئة على الدوام. وتسميتها ب "بركة" فيها تجاوز لأنها في الحقيقة نهر صغير ولكنه عاتٍ عتوَا شديدا, وتجف بعض أجزائه في الصيف وتتقطع في صورة مياه راكضة, وهذا الخط يبدأ من بحيرة "سٍبْدو" في دارفور ويرفد بمياه تتدفق فيه ويتغير اسمه لوداي "الغلّة, الغلال" ويمر بأبو قلب والفرشاية وخور أبو حبل وإلى النيل الأبيض, ولعل فولة الرهد "ابو دكنة" امتدادٌ له. وقد أحسنت عشيرة الفلاتة استغلال هذا المورد بزراعة الخضروات والأرز (في الرهد) وبساتين الليمون والمانجو وفواكه أخرى. أما العرب فما كان يهمهم إلا سقاية بهائمهم وزراعة الفول والذرة بقدر ما يكفيهم أو أقل مما يكفي, ومنه جاء مدحهم أبوزبد : المٍرين, خريف بقارة وصيف أم سٍعين, يصفون سهولة الحياة بالمرونة أما أم سعين فهي كناية عن الضأن الحمري المدرار لأن ضروعه كبيرة تتدلى كالسعون .(القرب الصغيرة, والمقصود اللبن". هذا يلزم أن أثبت هنا أن للفلاته اسهام كبير في تعضيد الأمن الأمن الغذائي وتوفير مستلزمات الصحة الغذائية لأن القبائل العربية لم تكن تعنى بهذا الجانب كثيرا, برغم أنهم اهتدوا بالغريزة إلى أهمية الخضار فجففوا الكوَل واستفادوا من صفق "التبلدي" في سلاطة "العفوس" وسلاطة تصنع من نبتة تكثر في مجاري المياه اسمها "العركلة" لا أنسى أن النساء ينتسلين بها وهن يمتشطن وأياديهن تضفر من "الحنقوق, السعف المبلول" و"النال" وبجانبهن جبنة الصفيح و"الشرقرق, كوز من الصفيح تصنع فيه القهوة, و يكررن غليها حتى "تمسخ" والأول "بِكْرٍي" والثانوي "تِنا" والأخير "تٍلتاوي". والغريب أنها نفس تقسيمات المشروب المسكر "العرقي" والبكري في العرقي لا يشريه إلا المقتدرون, أما المعسرون فلا يشربون البكري وغالبا ما يكون هؤلاء من الذين تسكرهم رشفة أو رشفتان لأن المدمن لا مقاومة له, بسبب عقابيل السكر الكثير من فقر وسهر وعلل تصيب الصدر والعقل وتنتهي بالعنة الجنسية, وهذه قاتلة في مجتمع يخلط فيه كثير من الناس بين الرجولة والفحولة, والرجولة ثقافة ومرجعية أخلاقية أما الفحولة فهي رزقُ بايلوجي آيل للزوال متى ما أسرف . المرء أو قسا على جسده. كأنّ القبائل الرعوية عربية الاصول لا تبذل جهدا كبيرا في استغلال الموارد الطبيعية, وأن جلّ اهماها لا يتعدى ما نشأوا عليه, ولا أخوض كثيرا ولكني أرى أنْ لو التفت هؤلاء الناس لما تزخر به , أرضهم من نعم وفيرة لما كان استمرار في الترحال ولما اشتجروا في حدود المراعي, أليس بأمكانهم الرعي في أماكنهم ومزجوا بين تربية الماشية والزراعة, وهما أصلا نشاطان يكمل بعضهما البعض. ولو كنت في السنوط – مثلا – لأبقيت على بهائمي ترعى بجنبي وتعلف مما زرعت, ولكني أعذر القوم لأن السياسات العليا لا تضع في حساباتها مثل هذه الأمور, ,وإن أثارتها فهي لا تثيرها إلا للاستهلاك الحكومي, ولو كانت هناك جدية لقطفنا الآن ثمار استقرار الرعاة وكان بُدِىءَ في مشاريع توطينهم منذ ما يزيد على الثلاثين عاما, وتوقفت الحركة وهجر فيه خيرة الخبراء في الإدارة ممن أوكل لهم الأمر إلى بلادٍ قصية, وأمثل لذلك بخسارة عظيمة لرجل في مقام على جماع الإداري الفذ الذي اصطر للعمل مع منظمة الأممالمتحدة, وكذلك الدكتور الصادق أبو نفيسة ومحمد على مختار الذي شيّد أعظم مشروع يعتمد عليه اليمن وهو مشروع سد "أبْين" الذي لا يعرف في اليمن إلا بمشروع محمد على مختار, وإلى اليوم والغد, ولا أحد يهتم بتوظيف خبرته فهو أحب الجزيرة وقطن فيها وقلبه يتحسر على القطن الذي يمون وعلى المشروع الذي تعفن لدرجة "التّقَطُّن". ويا خسارة. وأواصل [email protected]