وهل يحدث الله الناس أيحاءا؟ لا اشك في ذلك مطلقا, ولا ادعي اني أعرف كنه الإله ولا كيف يفكر ولم اختار لنا هذا الوضع الذي يتأرجح ما بين الاصطفاء والابتلاء. وباستمرار كان هذا موقفي إزاء هذه الأسئلة منذ الطفولة – ولا اقول منذ الصبا الباكر. فمنذ طفولتي الأولى كانت أخافه اشد الخوف وارتعد لما اقترف ذنبا يقف أمامي ويتمثل لي غولا يتهددني ويتوعدني فاغمض عينيّ حتى لا ابصره, اغمضهما حتى أحس بألمٍ مُرَكّزٍ يزداد كلما التصقت الجفون اكثر, ولا مهرب فالذنب يمتشق "مُخَوِّفاتِهِ". ثم استعين بالمعوذتين اللتين لا اذكر متى حفظتهما ومن حفظنيهما. ولا زلت اتساءل هل حفظنيهما الله كفاحا أو بواسطة. وارجح الواسطة لأن الله – في ما أرى – يعتمد الغموض في التبدي لمخلوقاته (وانا اتعمد ان لا اقول عباده لأمر سوف يأتي) لأنه لو غاب تماما أو وضح تماما فإن خيط الحيرة سينقطع, والحيرة مهمة لأنها تحفز على البحث والتساؤل ومن ثم التوصل إلى بعض أجوبة ناقصة يكملها الترجيح بناءَ على الإحساس وحده (وهذا الاحساس الداخلي نفسه لا نعرف أهو منةٌ وتفضلٌ أم مكسبٌ عقلى, وارجح المنّ, وفي ذلك مشكلة) . وطرفا الترجيح هما إما إيمانٌ أو إنكار. غير أن لا الإيمان وحده ولا الإنكار وحده كافيان لكبح جماح الاسئلة المتجددة. الانسان قوي الذهن لا يهدأ إلا بمعرفة ولذلك قال احدهم (من النصارى) "أنا لا أؤمن, أنا أعرف". ومشكلة اجتماعية كبيرة ستواجه من يدعي العرفان, ذلك أنه في قرارة نفسه سيساوي بين الأديان, ولا يصرح لأن مغبة التصريح عالية الكلفة , ستختلط الاوراق كلها وسيدعي كل هب ودب أنه عارف, والعرفان درجة نبوة قدْرا لا أجرا, فتخيل الطوفان. هناك تفاوت بين الناس وإن كان كل إنسان له حظُّ من تجلٍّ إلهي ما, أحلاما أو إلهاما (ولو كان فرعونا). ولذلك – في ما أرى – أهمية التصديق بنبيٍّ واحد واتباع منهجه العام, ولا غضاضة فالتجارب متماثلة وتتفاوت عمقا وجلاءً, وعليه فإن تصديق عيسى أو محمد يعني التأكيد على المعرفة الممنونة والالتزام بالتعاليم ذات المصدر الواحد. وهذان الأمران, التصديق والتأكيد , لا يعطلان عملية التناجي مع الذات العلية, بل يعمقانها. ومن هنا كان معنى الصلاة والتسليم على الأنبياء والمرسلين. ونسي الناس ذلك, فصاروا يعظمونهم باعتبار انهما مقدسان, وهو غلط. فالتعظيم لبشريتهما المتفردة بفضل سماويٍّ ومن وباتباع منهجهما (مع بقية الانبياء والمرسلين ومن طرح أمر التكديس وحب التراث من الصالحين, ومقياس الصلاح هو السعي لمنفعة الناس والزهد في متاع الحياة (الاكتفاء بالضروي وحده)) وأقول منهج متحاشيا منهجين ومناهج لأن المنبع واحد والموحي واحد. أما الاستقبال فيختلف باختلاف الازمنة والامكنة وهو في ما عُرِف بالشريعة. الشريعة تتطور تتبدل وفق ضوابط المنهج الذي لا يتغير, وليس خبطا أو اتباعا اعمى, وبخاصة اتباع اللاحقين في ما ليس فيه وضوح ونص واضح . وهذا يعني أن لا يتوقف الايحاء عند فترة زمنية معينة. لأن التوقف في فترة معينة يجمد الزمن الراهن في زمن ماضٍ, ويسميه البعض ب "الرجعية" وافضل عليها "التجمدية أو التوقفية". تجارب الناس الحالية تصب في تجديد القانون (الشرعة) المنضبطة بالاستقاء من المنهج الواحد بغض النظر عن اجتهادات القدماء ومن تزيا بزيهم اليوم. اولئك الذين (ليسوا كلهم, إذ فيهم صالحون ومجتهدون قلة بسبب طريقة تلقي العلوم المتجمدة أيضا). اليوم اليوم يوجد مُحدّثون ملهمون يجب أن يؤخذ بآرائهم لضمان استمرارية المنهج نفسه, وإلا هجر الناس لأنماطٍ من أديان شخصية ربما يكون فيها شيئ من الهام وكثير من لبَسٍ أو إنكار, ومنه ظاهرة ما يسمى بالارتداد التي ازدادت مؤخرا [email protected]