الإله في فلسفة التحولات الاجتماعية: الإله عبارة عن قوى كلية خلقت الحياة وفق أسس محددة بحيث تتكامل مع بعضها البعض في اللحظة التاريخية المحددة، وقد منح الإله الإنسانية طريقين لاستيعاب الحياة وهما طريق الوعي الجيني وطريق اعادة الاستيعاب النخبوي، وتكامل الطريقين يعني وعي الإنسانية بالكل الإرشادي، فالوعي الجيني يقصر الإنسانية على ذاته فقط وكذلك الوعي النخبوي من غير بداية من الذات أو انحصاره على الذات فقط أيضا يحول دون استيعاب مغزى الحياة الكلى. ويتميز الوعي الجيني بالتحولات التي تأتي من خلال التزاوج واختلاف معني الإنسانية من مرحلة تاريخية إلى أخرى مما يحرك الفرد نحو الآخرين، ولذلك لا يبقي الوعي الجيني اسير الوعي النخبوى الذي يظل قاصرا على اعادة الاستيعاب في كل مراحل تحولات الإنسانية، وامد الإله الوعي الجيني والنخب في كل مراحل التحولات الاجتماعية بالإرشاد لمساعدة المجتمعات والنخب على استيعاب الإنسانية التي يختلف معناها من مرحلة إلى أخرى والتي تعددت من اسرة أو عشيرة أو قبلية إلى ان وصلت المجتمعات إلى المرحلة الثقافية العرقية ثم المرحلة الثقافية الإنسانية. ولا يحتاج الإله إلى التدخل المباشر فمن يسير وعيه مع التحولات يكون في حالة توازن بين الوعي الجيني والرؤية التي تقوده ومن يسير عكس التحولات ويحاول رؤية الإنسانية بمنظار اضيق يظهر الاختلاف بين الرؤية التي تقوده وبين التحولات في ذاته وداخل مجتمعه المباشر، اما الاصرار على الرؤية حتى بعد ظهور تناقضها مع الواقع هو ما يؤدي إلى ظلم الواقع من اجل الرؤية. فمفاهيم مثل القضاء والقدر أو الابتلاء وغيرها التي نحتتها الرؤية العربية واليهودية اتت من داخل الرؤية وطريقة استيعاب النخب ولم تأتي من الرسالات الإرشادية، فقد جعل الإله لكل فعل داخل الحياة سبب مباشر داخل الحياة وليس من الواقع الإلهي ونجد ذلك في الإرشاد الإلهي المحمدي في سورة الكهف التي حاولت ان توضح ان ادراك الواقع والقوص به هو ما يوضح الفعل الخطأ من الفعل الصواب فرغم ان موسي نبي ولكن لا يعني امتلاك النبي لقوة خارقة ويمكن ان يخطي في الحكم على الأشياء إذا لم يكن لصيق بالواقع، وما يؤكد ذلك ان السورة إلى نهايتها تدعو على معرفة الأسباب. وكذلك الإله ليس سلبي ويتقبل كل فعل كما تقول الرؤية الغربية وهو ما جاءت به إرشادات كثيرة (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)) وغيرها من الإرشادات، ولكن الفعل المتماهي مع التحولات الاجتماعية إذا كان نابع من استيعاب للرسالات الإرشادية أو نابع من الحياة فقط يدفع بالإنسان نحو التوازن اما الفعل غير المتماهي مع التحولات يؤدي إلى عدم التعبير عن جزء من الفرد مما يولد قصور داخلي في إبراز ذلك الفرد لإنسانيته. فالفعل الإنساني هو فعل ذاتي نابع من داخل الإنسان وليس من الذات الإلهية (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148))، فالإله قصد تلك الصورة التي خلق بها الإنسان وذلك بامتلاكه لإرادة حقيقية للفعل الذاتي ولو كان يريده كما الإنسان الالى أو الملائكة يؤمر فيفعل لخلقه (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107))، ولا ينفي ذلك حاجة الفرد إلى اللجوء إلى الإله ولكن ليس ليكون فاعل بالانابة عنه ولكن يسعي الفرد إلى الله ليرشده إلى استيعاب مغزى الحياة. ان قصور الاستيعاب النخبوي اليهودي والعربي للحياة والرسالات الإرشادية قاد إلى عدم الاستفادة حتى من الرسالات الإرشادية، فقد دونت تلك الرؤى الوعي الجيني المجتمعي للإله الفاعل داخل الجزئيات باعتبارها رسالة في حد ذاتها ولذلك راينا ان الرسالات انقلبت من الدعوى إلى الوعي بمغزى الحياة والإنسانية إلى استيعاب الإله الفاعل وقيمه والتحرك داخل تلك القيم فقط، وهو ما نبهت الرسالة المحمدية إلى عكسه تماما (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)). فالمغزي ليس تصور الذات الإلهية فهذا من غير الممكن للوعي الإنساني ولكن استيعاب الإله يأتي من استيعاب الحياة ولذلك اشارت الرسالة إلى الحياة عند السؤال عن الإله (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259))، فاستيعاب الإنسان لذاته وطريقة تكامله مع الاخر الإنساني والطبيعة هو الذي يقوده إلى استيعاب الإله المتعالي. ويحضرني اخيرا الاختباء خلف المشيئة الإلهية كعذر للقصور الإنساني في مقولات مثل (ساحضر غدا انشاء الله أو نلتقي الساعة كذا انشاء الله وغيرها من العبارات التي أصبحت مالوفة)، وتاتي تلك المقولات نتيجة لقصور في استيعاب فعل محدد، وبدل ان يقر الإنسان بقصوره ذلك يلجا إلى الإله ليختبئ خلفه، وقد خلق الإله الحياة وهي تتكامل مع الإنسانية ولكن يأتي فرد أو جماعة فتغير في جزء من الطبيعة كما راينا مثلا في التغيير الذي صاحب المناخ عند بناء سد مروى فتتبخر مياه البحيرة وتغير في المناخ الصحراوى للمنطقة وتتأتي الأمطار والسيل ولا يقول احد ان تلك الأمطار والسيل نتاج لفعل إنساني ولكن هروبا من قصورهم الفكري يلجئون إلى الإله باعتبار تلك الامطار والسيول اتية بفعل الهى وليست نتيجة لفعل إنساني محدد. فأي تدخل انساني في البيئة يصاحبه تغيير محدد وميزة معرفة الإنسان لنتائج فعله هو معرفة اماكن القصور ومعالجتها قبل ان تصبح واقع وهو ما تحض عليه الرسالة الإرشادية المحمدية في معرفة الحياة المحيطة لتستطيع استيعاب الإله المتعالي (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)). فإذا كل فعل بين الإنسان والإنسان أو بين الإنسان والطبيعة هو ناتج من داخل الفرد وهو مسئول عنه ماعدا اية واحدة هي التي اختص الإله بها نفسه وهي الروح (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)) اما فيما عدا ذلك فكلها تخضع للإنسانية ويمكن لها ان تستوعبها داخل رؤيتها الكلية بناء على تحولاتها الاجتماعية وقيمها الذاتية. [email protected]