مدخل: الاستيعاب النخبوى والاستيعاب المجتمعي: يقوم الاستيعاب النخبوى للرؤية الكلية على تدوين لحظة تاريخية محددة داخل مفاهيم كلية وتحديدا في مفهوم الإله، ولذلك نجد مفهوم الإله محمل بالكثير من القيم الارضية التي تأخذ جزء من التقديس الإلهي. وتقف تلك الرؤية عند ذلك الحد وتصبح ناطقة بالانابة عن الإله في تعريفها للايمان والكفر أو للقيم الإنسانية التي تتغير مع التحولات الاجتماعية. اما الاستيعاب المجتمعي فيقوم على ممارسة الإنسانية التي تعني ممارسة جزئية ولذلك لا يتقيد بالكليات بل ينظر إلى سلوكه بناء على مرحلة تحولاته ويتم قياس ذلك السلوك بمجتمع التحولات إذا كان في المراحل السابقة أو بالمجتمعات الأخرى في مرحلة الثقافة الإنسانية. فإذا المجتمعات عبارة عن اختبار للرؤية الكلية التي تقدمها النخب فهي تتقيد بها إذا كانت متماهية مع لحظة تحولاتها. مفهوم الكفر والإيمان عند النخب اليهودية: تعددت الرسالات الإرشادية اليهودية من اجل إعادة تعريف الذات اليهودية كذات ثقافية بعيدا عن الانتماء القبلي وتطلب ذلك التعريف ان تتعدد الرسالات نسبة لإعادة الاستيعاب التي كانت تتم من قبل الوعي الجيني على أساس تمييز مجتمع التحولات عن المجتمعات الأخرى مما جعل تلك الرسالات لا تصل إلى غايتها. ولان النخب ظلت تدون الاستيعاب المجتمعي للرسالات الإرشادية مما انتج القصور الذي لازم تلك الرسالات في توصيل ذاتها كرسالات إرشادية، ذلك القصور النخبوى الذي تابع الوعي الجيني في اعتبار ان الرسالات اليهودية عبارة عن ميزة خاصة للمجتمع اليهودي باعتبار ان ذلك المجتمع يجسد فكرة الرب عن المجتمع والإنسانية (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)). وبما ان تلك الرسالات خاصة بالمجتمع اليهودي لذلك كان مفهوم الكفر والايمان مفهوم خاص بالمجتمع اليهودي فقط، ولان الاخر في الوعي المجتمعي هو الاخر غير الجيني لذلك لم تكن هنالك حدة في مفهوم الكفر والذي يعني الاخر ولذلك نجد ان المجتمعات تلجا إلى مفاهيم أخرى بديلة عن مفهوم الكفر وهي مفاهيم المخطئ والعاصي، فالمجتمعات تحييا وفق مرحلة تحولاتها وتأخذ ما يتوافق مع تلك المرحلة من الرؤية النخبوية. والرؤية النخبوية كما ذكرنا سابقا تقوم على اعادة استيعاب الوعي المجتمعي لفترة الرسالة وتحديدا قيمه السلوكية ومقدساته كقيم خلاص انساني، وعندما تتجاوز المجتمعات تلك المرحلة وتاتي بقيم أخرى تلبي لها معني الإنسانية فتتجاوز ما تقوله النخب في تلك الجزئيات وتبقي على الجزء المسمى بالعبادات فقط بعيدا عن المعاملات. الكفر والايمان عند النخب المسيحية: ان الرسالة المسيحية باعتبارها اخر الرسالات اليهودية التي حاولت توصيل مغزى الحياة الإنسانية والإله المتعالي، ولكن لخلوها من القيم المجتمعية اليهودية التي كانت تعتبرها المجتمعات ومن بعدها النخب عبارة عن قيم خلاص الهي للإنسانية، لذلك تم رفضها لعدم وجود دلالة محددة للإله كما تعودت تلك المجتمعات. وفشلت النخب التي ظلت تتابع الوعي المجتمعي فيما يقول من اعادة استيعاب تلك الرسالة كرسالة إرشادية. وعند خروجها من المجتمع اليهودي استوعبها المجتمع الغربي نسبة لحاجته إلى رؤية إلهية ولكن وفق مرحلة تحولاته الذاتية، فقد كانت الثقافة الغربية قد وصلت إلى مرحلة التحولات الثقافية واتجهت نحو القيم المادية لتكمل الفراغ الذي حدث نتيجة لعدم استيعاب مفهوم الذات الكلية في المرحلة الثقافية. فقد انحسر الوعي الجيني ليعني الاسرة فقط مما أوجد مساحات فارغة داخل الافراد التي لجأت إلى الطبيعة لتعويض ذلك الفراغ. ومن هنا كانت الرسالة المسيحية تمثل ملاذا إذ استوعبتها النخب من خلال مفهوم الإله السلبي نتيجة للاتزان النسبي لقوانين الطبيعة والتي أصبحت مقياس للإنسانية. واخذت الرسالة المسيحية من اليهودية مفهوم الإنسان المخطئ والإنسان العاصي داخل المسيحية واصبح من هو خارج المسيحية هو الإنسان الكافر. الكفر والإيمان في الرؤية العربية: ان اعادة استيعاب الرسالات الإرشادية على أساس رسالات ثقافية قيمية جعلت مفهومي الكفر والايمان يتحولان من مفهوم فردى يقوم على أساس من استوعب الرسالة الإرشادية ليعمل بها ومن لم يستوعب الرسالة الإرشادية لتوصيل تلك الرسالة له، تحول ذلك المفهوم إلى مفهوم جيني يفصل بين الذات والاخر نتيجة لقيام النخب بتدوين الرؤى المجتمعية العربية كرسالة إرشادية إلهية. الكفر والإيمان في الثقافة العربية صاغت نخب الثقافة العربية في مركزيتها (الجزيرة العربية) رؤيتها على الاستيعاب المجتمعي للرسالة تاريخيا باعتبار ان تلك القيم عبارة عن قيم خلاص الهي للإنسانية، اما المجتمعات فاستوعبت الرؤية الكلية ومن ضمنها مفهومي الكفر والايمان كتعبير عن الذات الكلية في مقابل الاخر غير العربي وتحديدا الاخر اليهودي الذي كان ضمن حيز الوعي. واستمرت مجتمعات الجزيرة العربية في تحولاتها البطيئة مع تمسكها بتلك القيم إلى ان وصلت إلى مرحلة الثقافة الإنسانية وهي مرحلة ما بعد الثقافة العرقية. عند هذه المرحلة بدأت القيم التي كانت عبارة عن قيم خلاص الهي للإنسانية بالتلاشي تدريجيا وتحديدا قيم المعاملات عند مركزية الثقافة كما حدث في كل الرسالات السابقة. فإذا مفهوم الكفر والايمان عند المجتمعات لا يخضع إلى مقياس سلوكي محدد ولكن يرجع إلى مكانة الفرد عند الوعي الجيني، فانتماء الفرد إلى المجتمع يجعل منه عاصي أو مذنب ولكن لا يجعل منه كافر أي اخر ضد. الرؤية العربية والثقافات الأخرى: ان اعادة استيعاب الرسالة الإرشادية المحمدية داخل تاريخ وقيم الثقافة العربية جعل منها رسالة ثقافية محملة بالقيم المجتمعية التي انتجتها مجتمعات في لحظة تحولات محددة لتلبية حاجات إنسانية، ولذلك عند خروج تلك الرسالة القيمية إلى الثقافات الأخرى تقوم بإلغاء قيم المجتمعات التاريخية وتحاول استبدال القيم العربية مكان تلك القيم مما يؤدي إلى هدم التراكم التاريخي للقيم والتجارب داخل الثقافات الأخرى. وعند استيعاب نخب الثقافات الأخرى لتلك الرسالة القيمية كرسالة إلهية يحدث الشرخ الداخلي بين المجتمعات وبين نخبها التي أصبحت تلغي كل القيم المجتمعية وتقول بكفر من يعمل بها وبالتالي تكفر النخب مجتمعاتها الحقيقية نتيجة لاتباعها للرؤية العربية. ولان النخب هم في الاخر بشر فهم في حاجة إلى ايجاد مجتمع يمثل المراة العاكسة للذات ولذلك تلجا تلك النخب إلى انتاج مجتمع بديل لمجتمعاتها الحقيقية تحاول ان يكون عبارة عن مجتمع طبيعي بالنسبة لها. ويتحول مفهوم الكفر والايمان إلى مفهوم مجتمعي بين المجتمع المصنوع إذا كان جماعة أو غيره الذي يمثل الايمان وبين المجتمع الحقيقي الذي يمثل الكفر. الكفر والأيمان في فلسفة التحولات الاجتماعية: ان الكفر والايمان في الرسالات الإرشادية عبارة عن حالة توضح مدي استيعاب الإرشاد الإلهي وتلك الرسالات بمثابة دعوة من الإله إلى النخب لمحاولة استيعاب مغزى الحياة الإنسانية والطبيعة والإله المتعالي وتوصيل تلك الرؤية عن طريق الإرشاد وليس الإلزام فليس على فرد إلزام اخر بأتباعه حتى الرسل (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99))، فيمكن للفرد ادعاء الايمان أو استيعاب الإرشاد الإلهي ولكن ذلك يبقي ادعاء فقط إلى ان يأتي يوم الحساب (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48))، فعلي كل فرد إذا كان نخبوى أو فرد عادي ان يدرك ان رؤيته عبارة عن ادعاء إنساني فقط لا تأكيد الهي له الآن، وعلى النخب الصاعدة معرفة ان الرؤى المقدمة عبارة عن رؤى إنسانية تعبر عن فرد أو اشخاص محددين (إذا تم نعتها بالإسلامية أو العلمانية). فاي قصور في سلسلة الاستيعاب الكلي يعني قصور أو كفر في الإرشاد الإلهي وتلك السلسلة هي الإله المتعالي والإنسانية وتحولاتها واختلافها وعلاقة الإنسانية بالطبيعة، ولذلك نجد وصف الأنصار بالكفر أو قصور الاستيعاب عند رجوعهم عن استيعاب مرحلة التحولات التي يوجد بها المجتمع العربي ورجوعهم إلى مرحلة تحولات سابقة متمثلة في القبلية(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)). فإذا تحديد اولويات لاستيعاب الرسالة أو ما يعرف باركان الإسلام هي عبارة عن مفاهيم إنسانية تعبر عن مرحلة تحولات داخل المجتمع العربي، اما الإسلام فهو رسالة واحدة إذا كان في اليهودية أو المسيحية أو العربية، وغايته الأساسية هي استيعاب الإنسان لنفسه وذاته الاجتماعية والاختلاف بينه وبين المجتمعات الأخرى ثم علاقته بالطبيعة ثم اخيرا استيعاب مفهوم الإله المتعالي. لذلك كان هدف الرسالة المحمدية الأول هو توصيل مرحلة التحولات التي يوجد بها المجتمع العربي في ذلك الوقت كمجتمع ثقافي بعد ان وقف المجتمع كثيرا عند التوصيف القبلي، فتم استيعاب جزء من قيم مجتمع التحولات (المجتمع المكي) إذا كان في العبادات أو المعاملات باعتبارها تمثل القيم الثقافية للمجتمع العربي. فإذا الرسالة الإلهية في جوهرها عبارة عن رسالة واحدة اما الاختلاف في العبادات والمعاملات فيرجع إلى البشر التي أنتجت تلك القيم وليس إلى الإله ولذلك اختلفت العبادات والمعاملات بين الرسالات الإلهية مما اوحى عند الإنسان العادي باختلاف الرسالة في جوهرها نتيجة للقصور النخبوى الذي كان من المفترض ان يوصل للافراد معني الإرشاد الإلهي. فالعبادات والمعاملات من انتاج البشر وكان استيعابها في الرسالات الإرشادية لتكون دافع نحو استيعاب كلي مع التأكيد على ان الإنسانية تحتاج إلى سلوكيات محددة لممارسات القيم فكانت تلك المفاهيم يجب ان يكون لها قيم محددة. ولم تأتي الرسالات محملة بالقيم ولكنها كانت تؤكد أو تنفي القيم المجتمعية التي كان يرى الرسول أو مجتمعه انها تلبي المفاهيم التي في الرسالة ( مقولة كان القران يأتي موافقا لراى عمر بين الخطاب). وهنا يطرح سؤال ولكن بشكل خاطئ وهو هل الصلاة المحمدية (الإسلامية) في العبادات مثلا هي الصلاة الصحيحة ام الصلاة اليهودية ام المسيحية؟ (وقس على ذلك بقية العبادات والمعاملات). لان صاح ام خطا هنا تعني في نظر الإله، والإله لا ينظر إلى الشكل أو القيمة المادية ولكن اثر تلك القيمة وماتفعله داخل الكلية (إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15))، ولم يكفر الإله اليهود نتيجة لعدم تاديتهم العبادات ولكن لقصورهم عن استيعاب الإله المتعالي وكذلك عدم استيعابهم للإرشاد الإلهي كدافع إلى تحول المجتمع القبلي اليهودي إلى مجتمع يهودي ثقافي واحد (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)). [email protected]