غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    شاهد بالفيديو.. محامي مصري يقدم نصيحة وطريقة سهلة للسودانيين في مصر للحصول على إقامة متعددة (خروج وعودة) بمبلغ بسيط ومسترد دون الحوجة لشهادة مدرسية وشراء عقار    السفير السعودي: المملكة لن تسمح باستخدام أراضيها لأي نشاط يهدد السودان    كباشي والحلو يتفقان على إيصال المساعدات لمستحقيها بشكل فوري وتوقيع وثيقة    شاهد بالفيديو.. في مشهد مؤثر البرهان يقف على مراسم "دفن" نجله ويتلقى التعازي من أمام قبره بتركيا    شاهد بالفيديو.. في مشهد مؤثر البرهان يقف على مراسم "دفن" نجله ويتلقى التعازي من أمام قبره بتركيا    شيرين عبد الوهاب : النهاردة أنا صوت الكويت    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    المسؤولون الإسرائيليون يدرسون تقاسم السلطة مع دول عربية في غزة بعد الحرب    الحرس الثوري الإيراني "يخترق" خط الاستواء    تمندل المليشيا بطلبة العلم    اتصال حميدتي (الافتراضى) بالوزير السعودي أثبت لي مجددا وفاته أو (عجزه التام الغامض)    السيد القائد العام … أبا محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    هيفاء وهبي تثير الجدل بسبب إطلالتها الجريئة في حفل البحرين    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة السودان الاقتصادية لا علاقة لها بالأزمة العالمية وإنما أسبابها محلية
نشر في الراكوبة يوم 23 - 09 - 2013

الإصلاح السياسي وديمقراطية الحكم أهم معالجات الأزمة ولا علاج غيرها للأزمة
تجنيب البلد سلبيات السياسات الاقتصادية للحكم الوطني تتطلب الرجوع للنظام الاقتصادي للانجليز
انهارت الطبقة الوسطى وانقسم الشعب لقلة أثرت ثراءً فاحشاً وغالبية تعانى الفقر المدقع.
القصور الفارهة وناطحات السحاب ومظاهر الترف التي اجتاحت العاصمة مظهر خادع وكاذب
أخيراً فرض الاعتراف بانهيار الاقتصاد السوداني نفسه على كافة الأجهزة على كل المستويات وعلى القوى السياسية بكل مكوناتها وألوان طيفها الحاكمة والمعارضة وأصبح الهم الأول لكل الأطراف كيفية الخروج من هذا النفق والكل يتسابق اليوم لوضع الحلول كل حسب رؤيته .
إن الذين يحسبون إن الأزمة هي إفراز لانفصال الجنوب وحده يخطئون والذين يتوهمون إن خروج النسبة العالية من البترول من ميزانية الدولة هو العامل الأساسي للازمة يخطئون بالرغم إنهما ساهما بلا شك في مضاعفة الأزمة وتعقيدها ولكن تبقى الحقيقة إن.السودان ظل يعيش الأزمة قبل أن ينفصل الجنوب وقبل اكتشاف البترول كما إن حجم معاناة المواطن أصبح أكثر حدة بعد اكتشاف البترول وسيبقى كذلك مهما تضاعف طالما انه لا يوجه التوجيه الصحيح بالرغم من إن اكتشافه كان يفترض أن يعنى انفراج الأزمة وان ينعكس على رفاهية المواطنين وليس تعقدها ومضاعفة معاناتهم فالأزمة الاقتصادية إذا كنا ننظر لها بالمعايير الاقتصادية والتي تتمثل في مستوى معيشة المواطن ورفاهيته كمعيار للاقتصاد المعافى من أي شوائب فان الأغلبية العظمى من الشعب كانت تحت خط الفقر ولا تزال إلا إن السودان لم يعرف أو يشهد هذه المعاناة بعد انفصال الجنوب وبسببه وحده أو فقدان عائد البترول وإنما ظلت المعاناة واقعه قبل ذلك بعشرات السنين وتحديدا منذ أن عرف السودان الحكم الوطني وان تفاوتت النسبة بين مراحل الحكم الوطني وأخرى حتى بلغت ذروتها في ربع القرن الأخير تحت ظل حكم الإنقاذ الذي عرف ولغرابته بعصر البترول .
بالطبع ليس هناك شك في إن انفصال الجنوب وانحسار البترول له اثر كبير في ما يدور من لغط ومن عجز كبير في الميزانية ولكن هذا العجز الذي تسبب فيه الانفصال وتوقف عائد البترول هو أكثر ضرراً وتأثيراً مباشراً على الطبقة التي أثرت ثراءً فاحشاً بعد أن قحطت الخزينة التي كانوا ينهلون منها بلا حساب فالانفصال وانحسار البترول تأثرت به مباشرة هذه الطبقة ممثله في الحزب الحاكم والموالين من المنظمات السياسية والشبابية والطلابية من روافد النظام وشركائهم من أحزاب المنفعة والمصلحة التي أبت إلا أن يكون لها نصيبها من الكعكة و من مريديها من طبقة الرأسمالية الجديدة من مراكز السلطة ومحاسيبهم التي برزت تحت ظل الحكم الحالي والتي لم يسمع عن ثرائها إلا في ربع القرن الأخير حيث نمت هذه الطبقة الرأسمالية الطفيلية التي صاحبت الحكم الحالي فهم الأكثر تأثراً بالانفصال وبقلة العائد من البترول حيث شحت الخزينة ولم تعد توفر ما يستأثرون به منه بالوسائل العديدة التي ابتدعوها لأول مرة في تاريخ السودان لهذا كانوا وحدهم هم المستفيدين منه والمتضررين منه الآن وان بدا هذا الحديث غريبا إلا إنها تبقى الحقيقة إذا نظرنا للمسالة بشفافية وتجرد
فهي من وجهة نظري المتواضعة إنها هي الحقيقة فالطبقة التي استأثرت بالاقتصاد الذي أصبح في عرفهم قصور وناطحات سحاب وسيارات فارهة داخل وخارج السودان فهذه هي القلة التي أثرت ثراء فاحشا من البترول وهى المتضررة أكثر من سائر المواطنين من توقف البترول أو قلة عائده الذي جفف من الخزينة التي كانوا ينهلون منها بلا حساب أو رقيب لهذا جاء اهتمامهم اللامحدود بالأزمة التي لم يعيروها أي اهتمام إلا بعد أن أصابهم الضرر مباشرة حيث إن البترول منذ اكتشافه لم ينعكس له أي أثر ايجابي للحد من معاناة المواطن الأغبش الذي لم يلمس أي تغيير ايجابي يحسب لصالحه متزامنا مع البترول
ويا لها من مفارقة منذ أن أصبح السودان دولة بترول تضاعف على مواطنه حجم المعاناة بل كلما صدر عن المسئولين ما يبشر باكتشافه أو زيادة إنتاجه كان هذا يرتبط في نفس الوقت بارتفاع في أسعاره ومنتجاته وبالارتفاع تلقائيا لكافة السلع والخدمات التي يحتاجها المواطن والتي ترتبط كلها أما مباشرة أو بطريق غير مباشر بسعر البترول دون أن تسلم أي سلعة أو خدمة من التأثر به سلبا.
لهذا ظل الحديث عنه واكتشافه يضاعف من العبء على المواطن ولم يحدث أن صحب الإعلان عن اكتشافه أو مضاعفة إنتاجه أن انعكس هذا على المواطن في توفير التعليم له بالمجان أو حتى تخفيض تكلفته حتى شهدنا مئات الآلاف من التلاميذ وطلاب الجامعات يفشلون في سداد رسوم الامتحانات بل حتى تسلم شهادات النجاح بسبب الرسوم ناهيك عن التزامات التعليم الأخرى بعد أن أصبح تجارة وليس خدمة تقدمها الحكومة و هكذا الحال في علاجه حتى أصبح المواطن الذي يعجز عن تكلفة العلاج التي ارتفعت بجنون حتى في المستشفيات الرسمية مع التدني الكبير في مستوياته وارتفاع أدويته لدرجة إن المواطن يتعين عليه أن يشترى (الحقنة الخالية) من مصادره الخاصة بل أو في توفير قوت يومه هذا إذا توفر له مصدر العمل فما بالنا إذن مع الذين سدت أمامهم أبواب العمل الذي أصبح وقفا على المحاسيب والمريدين حتى اجبر الكثيرين منه للتسول كذلك لم يشهد المواطن رفع العبء الضريبي عنه أو خفض الجبايات التي أثقلت كاهله حتى إن شوارع المدن احتلها حملة الجبايات والغرامات المختلفة بل لم يشهد المواطن تخفيض تكلفة الخدمات الضرورية التي تقدمها الدولة من فاتورة الكهربا والمياه بل ظلت هذه الضرورات تزداد ارتفاعا في التكلفة.مع كل اكتشاف للبترول
لهذا فان المواطن لم يعرف أثراً ايجابياً للبترول في حياته بل ظلت التزاماته قبله وبعده في تصاعد مستمر بل الحديث عن الأزمة اليوم جاء متزامنا مع عودته وكلما يلمسه المواطن من تغيير هو في حياة ورفاهية المسئولين ومحاسيبهم منذ عرف الحكم الوطني عندما أصبحت تكلفة الحكم من منصرفاته المنظورة وغير المنظورة وقضاياه التي من صنع سياساته تستأثر بالحجم الأكبر من دخل الدولة القومي على قلته.إلى أن بلغت في العهد الحالي ذروتها كما تحكى عن ذلك القصور وناطحات السحاب التي غيرت معالم بعض مناطق العاصمة التي أصبحت مؤشرا لارتفاع معدلات الدخل القومي لأعلى مستوى بسبب البترول بينما واقع حياة المواطن الاغبش تقول غير ذلك لان من انعكس هذا الدخل في حياتهم هم قلة الفئة الحاكمة وطبقة الرأسمالية الجديدة التحى أفرزتها والتي هيمنت على كل مصادر المال وبكل الطرق.
أما المواطن في عهد الحكم الوطني فان حاله ازداد سوءا وأصبح هو الذي يمول الدولة حيث إن الدولة تلجأ لجبي المال منه بشتى الطرق عندما تحل بالبلد ضائقة مالية بما يفرض عليه من التزامات مالية تذهب من جيبه للخزينة هذا إذا ذهب كل ما يدفعه إليها و لم يأخذ طريقا آخر. بينما الوضع الطبيعي أن يذهب مال الخزينة لمصلحة المواطن وهذا ما لم يعرفه المواطن في عهد الحكم الوطني.
لهذه الأسباب فان الحديث عن الأزمة بهذه الزاوية الضيقة من انحسار البترول وانفصال الجنوب لابد أن يؤدى لنتائج خاطئة وربما يؤدى لحلول تزيد من معاناة المواطن لان من لا يدرك مسببات الأزمة لابد أن يعجز عن حلها وبالتالي تأتى حلوله في اغلب الأحيان أكثر تعقيدا للازمة إلا إذا كان المطلوب حل أزمة الطبقة المنعمة والتي فقدت مصدر ثرائها بالانفصال وتقلص البترول وقلت مصادر المال التي يستأثرون بمنفعتها وذلك بغرض تعويضها عن ما لحقها من ضرر.فان الحلول غير العملية والتي لا تعالج الأزمة الاقتصادية تصبح هي المتاحة. وان جاءت خصما على حياة شعب المعاناة التي تزداد تعقيدا .
الأمر الثاني
ولنفس الأسباب أعلاه مكابر من يعزى الأزمة الاقتصادية التي يعانى منها السودان للازمة العالمية فانهيار اقتصادنا يرجع لأسباب داخلية علينا أن تجردنا ونظرنا للمسالة بأمانة فالاقتصاد العالمي أصبحنا أسرى له منذ إن ابتدعنا تحرير الاقتصاد الذي لم نكن نعرف لمن كان مستعمر حيث أصبحنا سوقا مفتوحة في معركة غير متكافئة مع المهيمنين على السوق العالمية كان أهم نتائجها أن يغرقنا الاقتصاد بعد تحريره لتدمير العملة الوطنية وفى مديونية تفوق طاقتنا حتى أصبحنا نتسول ونستجدى ونقدم التنازلات السياسية والاقتصادية حتى يرحم بنا من أسلمناهم أمر اقتصادنا في معركة غير متكافئة حبا في مظاهر الحياة الزائفة التي استأثرت بها القلة ويا له من أمر عجيب فان كل من تطأ قدمه العاصمة السودانية ويطوف خرطومها الجديدة يتوهم إن السودان بلد تعمه رفاهية لأهله لا تتمتع بها حتى دول الخليج والبترول ولكن ما أن يتجه لأطرافها أو يطوف ولاياتها ويرى حالة البؤس التي يعيشها الغالبية العظمى من أهل البلد لابد أن يعجز عن فهم هذه المفارقات فهل هو في بلد واحد.
كل هذا صنعناه أنفسنا بما اقترفنا في حق الوطن منذ حررنا السودان أو أدعينا إننا حررناه من الاستعمار وليتنا لم نفعل فحالنا مع الاستعمار كان أفضل.
وهذا ما أحاول الوقوف فيه في هذه المقالة حتى نقف على مسببات هذا الواقع الاقتصادي بشفافية تامة. والتي أوجزها فيما يلي:
1- السودان أولا نشأة دولة بدائية مصنف من الدول الإفريقية المعدمة رغم ما يتمتع به من قدرات هائلة لم تستغل في الزراعة والثروة الحيوانية والمعدنية والسياحية مع وفرة المياه ومصادر الطاقة لهذا ساد مجتمعه حياة متواضعة متوافقة مع هذه الطبيعة تقوم على بساطة المعيشة ومتطلباتها ووفق أمكانتها المستغلة والمحدودة ووفق قدراته إلا انه رغم ذلك كانت مستوياته المعيشية متقاربة حيث لا يلمس فارقا في المستويات بين مناطقه المختلفة كما نلمسها الآن حيث إن كل شعب السودان يعتمد على لقمة الكسرة من الذرة وعصيدة الدخن وغيرها من مستلزمات الحياة رغم بساطتها بل ظلت مستويات المباني متقاربة من الخامات المحلية من وفرة التراب والمياه وبيوت الطين التي تتطورن فيما بعد للطوب الأحمر من الصناعة المحلية لهذا لم يكن المواطنين يعانون من الفوارق الطبقية وقتها حتى جاء الحكم الوطني بسلبياته التي فلبت الطاولة وأشعلت هذا الفوارق الشاسعة بين شعبه مما فجر العديد من المشكلات لعدم توفر العدالة الاجتماعية عندما استأثرت فئة الحكم بتميز في حياتها وكان كل ذلك على حساب رفاهية مواطني المناطق الأخرى حيث إن الحكم الوطني وبعيدا عن الاعتبارات الاقتصادية سعى لان يغير نمط حياته و يحوله لمجتمع استهلاكي يعتمد على الاستيراد من الخارج في الوقت الذي لا يملك فيه مصادر العملة الخارجية التي تلبى حاجة المجتمع الاستهلاكي بل تحوله لمجتمع كماليات على النهج الأوربي الذي قفز إليها دون أي حسابات أو وموازنات. تتوافق وقدراته
ولتقريب وجهة النظر هذه فان السودان ومن مختلف طبقاته ظل حتى نهاية الخمسينات يعتمد على منتجاته المحلية في مختلف مناطقه من الذرة والدخن والذي يملك قدرات عالية لإنتاجه بمستوى يفوق احتياجاته وقابل للتصدير كمصدر لعملة خارجية ولكن فجأة مع الحكم الوطني انقلب الحال وانقلب السودان لمجتمع استهلاكي يعتمد على ليس لضروراته فقط وإنما لسلع الرفاهية والكمالية وعلى المستوى الأهم على سبيل المثال عمل الحكم الوطني لان يحل القمح الذي لا نملك مقومات زراعته وتطوير إنتاجه محليا ونعتمد على استيراد دقيقه ليصبح المصدر الغذائي الرئيسي ويحل بديلا للذرة والدخن ولقد خدعنا أنفسنا يوم توهمنا إننا بالانتقال من استيراد الدقيق لنستورد قمحا والذي تتطلب منا أن نستورد آليات تحويله لدقيق ليصبح كخام مستورد ولتحويله لدقيق بآليات وتقنية مستوردة تحت وهم ا ن هذا تطوير للصناعة المحلية وهو غير ذلك لان مقومات الصناعة المحلية لا تقوم على الخام المستورد وباليات وتقنيات مستوردة وتبع ذلك تكلفة عالية فوق قدرات الوطن المالية لما أصبحت السلعة الوحيدة الغذائية تعتمد على استيراد القمح بالدولار بل والآليات التي تستخدم في تحوله لدقيق مما أرهق الدولة ماليا وأقحمها في الديون والخضوع للضغوط بما عرف بالمعونة الأمريكية وأصبحت أمريكا وغيرها من الدول المنتجة فجأة قابضة على المصدر المعيشي للمواطن السوداني. لنكتب بأيادينا نهاية للذرة والدخن الذي نملك كل مقومات إنتاجه ويكفى حاجة البلد .وهو نفس ما لحق بالبلد من تحولات في انتقال المباني من الاعتماد على الخام المتوفر محليا من (تراب ومياه) يصنع منها الطوب الأخضر والأحمر والذي يعتمد عليه في تشييد المنازل لينتقل السودان في عهد الحكم الوطني ليحول المباني لغابة من الحديد والاسمنت المستورد الذي أصبح من اكبر مصادر استنزاف العملة وهكذا الحال من متغيرات صحبت الحكم الوطني في خطوات متعجلة دون تروى كانت أهم نتائجه الواقع الاقتصادي المنهار وما لحق بمواطنيه ما تسمى بالمناطق المهمشة من إحساس بالغبن بعد أن اتسعت الفوارق بين أبناء الوطن الواحد بصورة أصبحت مصدرا لكل المشكلات التي يعيشها السودان اليوم والتي قضت على استقراره. وأصبحت نفسها مصدرا لا ستنزاف إمكاناته .
ليس هذا إلا نموذج للخلل الذي أصاب الاقتصاد في كافة أوجهه مع انطلاقة الحكم الوطني. لان ما أصاب الذرة أصاب كافة أوجه الحياة السودانية لتنقلب الطاولة على الجنيه السوداني كما سترون وبلغة الحساب.
وللامان والتاريخ فلقد أسس الانجليز نظاما اقتصاديا يقوم على واقع البلد يقوم على المحافظة على بساطته والسعي لانتقاله بمعدلات تحقق التوازن بين احتياجاته وإمكاناته المادية من مصادر العملة الأجنبية حتى لا يختل التوازن بين قدرات البلد واحتياجاته الخارجية على أن يتجه الاهتمام بصفة خاصة على تطوير مصادر العملة الخارجية وفق القدرة على استغلال ثرواته المتنوعة وعلى رأسها قدراته الزراعية التي تجعل منه سلة غذاء العالم وليس معتمدا على العالم لتوفير طعامه بالدولار
لهذا حتى مغادرة الانجليز للسودان ولأنهم عرفوا كيف يحتفظوا للجنيه السوداني بقيمته دون تهور وانفلات لم تكن هناك مفارقات طبقية على النحو الذي نشهده اليوم وظل الجنيه السودان المصدر الوحيد للمواطن تفوق قيمته السوقية الجنيه الإسترليني والدولار ليس لأنه اقوي من هاتين العملتين ولكن بسبب التحكم في قيمة العملات الأجنبية بما يتوافق مع المحافظة على قيمة الجنيه السوداني فكان الجنيه يساوى ثلاثة دولار أمريكي (سبحان الله) ولما انخفض قليلا بلغ سعره ما يقرب أثنين تنين دولار ونصف حتى منتصف السبعينات
وللوقوف على الأسباب التي لحقت بالاقتصاد السوداني منذ بدايات الحكم الوطني حتى بلغ أم الكبائر في عهد الإنقاذ الحالي لا بد أن نقف على النظام الذي أورثه الانجليز للسودان للحفاظ على قيمة الجنيه السوداني حتى لا يصبح السودان مستعمرة للدولار كما هو الحال الآن.
ببساطة شديدة جدا واعتمادا على القاعدة الاقتصادية إن سعر السلعة يتحد بعلاقة العرض والطلب فان ارتفع الطلب للسلعة على عرضها فان سعرها يزيد أي انها علاقة بين العرض والطلب .
على ضوء هذا الفهم المبسط أسس الانجليز نظاما اقتصاديا يحد من الطلب على الدولار كسلعة في مواجهة الجنيه السوداني وذلك بإحكام قبضة الدولة على الاستيراد حتى يتحقق التحكم في الطلب للدولار وذلك إنهم نظموا سياسة تضبط الاستيراد بقدرات البلد ومكانتها من توفر العملة الأجنبية لتجنيب البلد أي اختلال في هذه العلاقة حتى لا يواجهوا عجزا فيه يؤثر سلبا على قيمة الجنيه السوداني لان هذا يضاعف من قيمة الدولار ويخلق عجزا كبير في الحاجة للعملة الأجنبية مما يرفع سعر الدولار في مواجهة الجنيه السوداني وما يفرزه هذا من حاجة للاستدانة لتغطية العجز في الموارنة بين الجنيه والعملة الأجنبية.
ولتحقيق ذلك وضع الانجليز إستراتيجية اقتصادية تقوم على التحكم في الاستيراد من الخارج بالعملة الأجنبية بحيث لا يتعدى ما تستورده البلد المتوفر منها حسب قدرات الدولة من مصادر للعملة الأجنبية على أن يعمل لتوسيع مصادر العملة لتغطية المزيد من الاحتياجات التي تستورد دون أن يحث هذا اختلال في الموازنة بين العملتين المحلية والأجنبية.
صحيح إن هذا ترتب عليه أن يحافظ على مستوى المعيشة العام وهو مستوى متواضع بعيدا عن مظاهر الترف إلا انه يحفظ التوازن بين أبناء الشعب الواحد ولا يشعر الكثير من مناطق السودان بتميز منطقة أو فئة بعينها على بقية شعب السودان بل غالبيته بحيث تتحقق العدالة الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد رغم الفوارق الطفيفة التي لا تثير الغبن وان كانت على مستوى متواضع من المعيشة
ولحفظ هذا التوازن الاقتصادي بين قدرات البلد وحاجياتها فلقد اقتصرت السياسة الاقتصادية أولا على ألا يتعدى الاستيراد لأي سبب كان ما تملكه الدولة من عملة أجنبية وان يتم توظيف المتاح من العملة الأجنبية لسد حاجة البلاد من الضروريات التي تمثل أهم احتياجات المواطنين على قدم المساواة لهذا كان توظيف الدولار المتاح فقط على الضروريات وحسب الأوليات.
ولتفعيل هذه السياسة انشأ الانجليز بنك السودان وأوكلت له سلطة التحكم في العملة الأجنبية من مختلف مصادرها بحيث إن حركة الدولار تخضع لموافقة بنك السودان وتحت قبضته دون أن يفلت منه دولار واحد
وقد تتطلب هذا أن تنشأ وزارة التجارة والتي تقتصر مهمتها على التحكم في الاستيراد حيث يحظر دخول أي سلعة للسودان بدون موافقة هذه الوزارة والتي اقر النظام التنسيق بين وزارة التجارة وبنك السودان وعلى ضوء هذا التنسيق تحققت ثنائية قابضة على مصادر الدولار والاستيراد فان ما يصدر من رخص استيراد من وزارة التجارة لابد أن يقابله توفر العملة الأجنبية بتصديق من بنك السودان وعليه فان رخصة الاستيراد التي تصدرها الوزارة لا تعتبر نافذة إلا بموافقة بنك السودان عليها وبختمه حتى يتوفر الدولار المقابل لقيمتها في حدود الإمكانات المتاحة ولا يسمح للبنوك التي تباشر تنفيذ عمليات الاستيراد بان تتخذ أي إجراء ما لم تكون هناك رخصة استيراد من الوزارة ومختومة ومعتمدة من بنك السودان مما يعنى هيمنة البنك على العملة الأجنبية.
لم يقف النظام الذي أسسه الانجليز على ضبط الموازنة بين الدولار والجنيه السوداني وإنما أسس الانجليز لنظام محكم في ضبط منصرفات الدولة وتكلفة الإدارة التنفيذية للدولة حتى لا تكون عبئاً على الدخل القومي كما هو الحال الآن لهذا أنشأت إدارات ومصالح تتحكم في كل أوجه الصرف ولقد كان أشهر هذه المصالح والإدارات إدارة المشتريات الحكومية جميعها ومركزية الحسابات بحيث لا يتسرب أي جنيه بعيدا عن الميزانية كما إن الانجليز اعتمدوا على تطوير إدارة السكة حديد لدفع الصادرات السودانية بأقل تكلفة ترحيل ومصلحة النقل الميكانيكي التي تتحكم في كل عربات الدولة التي يحظر استخدامها لأغراض خاصة والتحكم في استهلاكها من البترول ولعل مصلحتي الأشغال والمخازن من أهم المصالح التي أسسها الانجليز لتتولى مسئولية تشييد أي منشأة حكومية وتزويد أجهزة الدولة وملتزماتها وغيرهم كثير من المؤسسات الحكومية التي سأفصل فد دورها في الحلقة القادمة لنرى كيف كانت النهاية المأساوية التي انتهت إليها هذه المؤسسات سببا في نتائج مأساوية وخيمة كان لها الدور الأكبر في الأزمة الاقتصادية .
ولعل أهم ما أسس له الانجليز أن أسسوا نظاماً للحكم للمليون ميل مربع بان قسموه لتسعة مديريات فقط على رأس كل مديرية محافظ واحد يعاونهم مجموع من ضباط المجلس حيث كان لكل مدينة ضابط واحد يدير شؤونها وفق ضوابط مالية صارمة فكيف حال إدارة الحكم اليوم في عهد الحكم الوطني مقارنة بذلك النظام
ولقد كانت أهم مسببات هذا النظام توفير اكبر قدر من الدخل القومي لتوفير الضرورات للمواطنين. ولم يكن المواطن يومها يتحمل أي قدر من الالتزامات المادية للدولة
ولعل أهم من ذلك كله الضوابط المالية الصارمة بحيث لا يفلت جنيها واحد من أن يورد في خزينة الدولة أو يتم التصرف فيه بعيدا عن الضوابط مهما على مركز المسئول
هكذا كان الاقتصاد الذي أورثه الانجليز للحكم الوطني وفى المقالة القادمة سوف أتناول أسباب انتكاسة الاقتصاد السوداني والذي بلغ اليوم مرحلة الأزمة المستفحلة عندما انخفض قيمة الجنيه السوداني بسبب سياسات الحكم الوطني وليرتفع سعر الدولار الذي كان يساوى أربعين قرشا بالقديم في عهد الانجليز ليساوى اليوم في عهد الحكم الوطني سبعة جنيه بالجديد أي ما يعادل سبعة ألف قديم وهو ما يعنى إن الدولار ارتفع عن الجنيه بما يقارب واحد وعشين ألف ضعف عما كان عليه في عهد الانجليز مما يؤكد إن أزمتنا سياسية قبل أن تكون اقتصادية لهذا فان تجنيب السودان أزمته الاقتصادية يقتضى الحل السياسي بان نستوعب الدرس من النظام الذي أورثه لنا الانجليز.
كان لابد من هذه الإشارات إذا أردنا أن نقف على مسببات الأزمة الاقتصادية حتى نعرف الحلول لإصلاح الحال وان بدا تحت الظروف الحالية من المحال ولكنه ليس بالأمر الصعب إذا عالجنا المأزق السياسي أولا وأخذنا العظة من الانجليز واعدنا الأمور لوضعها الطبيعي فكما يقول المثل(مد لحافك على قدر رجليك) وهذا ما علمنا له الانجليز ولم نستوعب الدرس
والى الحلقة القادمة
النعمان حسن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.