تراسيم قبيل منتصف ليلة الثلاثاء الماضية كانت امي تتمدد على فراش الموت..انتصبت مثل سيف فارس وقع على الارض بعد انجلاء معركته الاخيرة..عندما كانت حاجة زينب على قيد الحياة وفي ايامها الاخيرة لم يكن بوسعها ان تبسط قدميها بهذه الاريحية..سألت نفسي وانا انحني للمرة الاولى واقترب من امي هل الموت يريح الانسان المؤمن..قبلت جبينها المخبوء وراء رداء الموت ثم اغمضت عيني لاستبصر ايام خلت عشتها في رحاب حاجة زينب. كانت امي تمثل لي معان تبدو متناقضة..اشعر بها قوية حد التسلط حينما تعزم على راي..مجاملة ولينة وطيبة في كثيرة من الاوقات..عطوفة وحنونة تتعامل معنا باعتبارنا مجرد اطفال..قاسية حينما نتجاوز الحد ونقصر في الواجب ..صلبة في المنحنيات وما اكثرها. تزوجت امي في صباها الباكر كبنات جيلها..اعتقد ان زواجها الاول كان في منتصف الاربعينات..كان زوجها الاول احد اقاربها من جهة امها..خاضت حاجة زنب اولى معاركها ضد الجهل..تجمعت مع بعض النسوة لتعلم القراءة والكتابة عبر كتاب مفتاح المعرفة ونجحت في ذلك بامتياز..وقفت ذات يوم امام بناية لوزارة الدفاع ونسيت ان امي تجيد القراءة..قلت لها ساقابل صديق..بقلق شديد فاجأتني" البيجيبك وزارة الدفاع شنوا ياعبدو ولدي". اعود لامي في تجربة زواجها الاول ..بعد سنوات طويلة لم يرزق الله الاسرة الصغيرة ببعض الذرية..سافرت حاجة زينب من حي السجانة بالخرطوم لتقضي الاجازة مع والدها الذي كان يعمل في مشروع الجزيرة..فكر زوجها ان يتزوج باخرى حتى يضعها امام الامر الواقع..لم تفعل حاجة زينب شيئا غير ان تنتفض ثم تنسحب بهدوء عن ذاك المسرح..لم تفلح الوساطات في رتق الامر..حاجة زينب في ذاك المشهد كانت تثور لكرامتها. كان ابي من اولئك الوسطاء الذين سائهم ان تطلب ابنة عمه الطلاق..عاد الحاج محمد احمد بعد شهور ليتطلب الاقتران بحاجة زينب وكان في عصمته زوجتين..رفضت حاجة زينب العرض بمنطق انها لم تقبل ان تكون زوجة اولى فكيف تصبح ثالثة..بعد ضغط كثيف باتت امي زوجة ثالثة لوالدي ثم شدت الرحال الى فجاج بحر ابيض. بعد سنوات قليلة جاء الى الدنيا اخي الاكبر وفي شهوره الاولى اصيب بعاهة في قدميه ردتها امي الى حقنة تطعيم..وبعده بسنوات جئت انا..لاسباب لم تفصح عنها حاجة زينب قررت ان تسافر الى الشمالية ..استعصمت بجانب جدتي ووقتها كان قد توفى والدها.. لم يكن خيارا يسيرا لامراة لم تبلغ الاربعين ان تعتزل حياة رغدة وتبتدر اخرى فيها كثير من شظف العيش..الغريب ان امي لم تكن ترغب في سرد تفاصيل تلك الايام حتى لا تؤثر في مودتنا لاخوتي غير الاشقاء. من بركات امي وجدتي ان الرحمة والبركة كانت تتنزل على ذاك البيت الصغير ..كلما ندخل المخزن نجد رزقا طيبا يكفي مؤنة عام..السكر والقمح والذرة والزيت في عبوات كبيرة..الدجاج والحمام يملاء البيت الريفي وتواصل حميم من عشيرة امي الاقربين. في تلك السنوات الباكرة كانت امي تلعب دور الاب والام وربما الاخ الكبير..قست علينا انا وشقيقي ذات يوم حنما اخذنا من محفظتها مال من غير اذن لنشتري مصيدة عصافير..تلك العلقة الساخنة لم تبارح خيالي ابدا كلما اقترب او اوتمن على مال عام او خاص. حينما راتني اقترب من المراهقة الحرجة التي تحتاج الى اب صارم لم تتردد كثيرا ووافقت على سفري بصحبة والدي الى مدينة كوستي واحتفظت بشقيقي الاكبر بمنطق انه يحتاج الى رعاية خاصة وفرتها له لاربعين عام..كانت قريبة من اخي خالد حتى بعد ان تزوج وانجب. اعترف ان اول من جندني لحركة الاخوان المسلمين كانت امي.. لا ادري ماعلاقة حاجة زينب بالاسلاميين وربما كانت مستمعة جيدة للراديو وربما رأت نماذج جيده لهم في الحياة.. ولكن اذكر انها كانت تحدثني عن الاخوان المسلمين باعجاب شديد مهد الطريق لأن يتعلق قلبي بالفكرة منذ نعومة اظفاري. عفوا قرائي الكرام البوح يجعلني افرغ بعض من احزاني..احتملوني قليلا فحاجة زينب هى امكم جميعا..كانت دائما ككل السودانيات تضحي لتسعد الاخرين. اللهم ارحم حاجة زينب واجعل مثواها الجنة يارب العالمين. الاهرام اليوم [email protected]