د. محمد سعيد القدال الانتخابات البرلمانية الثالثة 1965 اندلعت ثورة أكتوبر عام 1964، وبدأت معها التجربة الديمقراطية الثانية والتجربة الانتخابية الثالثة. وخرج الناس تنفخ في أشرعتهم رياح الأمل. وكان لابد أن ينعكس المد الثوري على قانون الانتخابات وعلى الانتخابات التي أجريت عام 1965. وكان لابد أيضا لتوازن القوى الذي حكم خطى الثورة أن يؤثر عليها أيضا. فوسع قانون الانتخابات من المشاركة بالآتي: أعطى النساء حق التصويت للمرة الأولى في تاريخ البلاد. وخفض سن الناخب من 21 إلى 18 سنة. وأعطى القانون للخريجين 15 دائرة. كان ذلك أقصى ما حققه المناخ الثوري. وكان ذلك إنجازا كبيرا بالنسبة لانتخابات 1958. من الجانب الآخر قسمت الدوائر تقسيما عدديا محضا ولم يراع الفرق بين مناطق الإنتاج والوعي والمناطق الأخرى كما حدث في انتخابات 1953، لأن الأحزاب مازالت تلهث خلف المقاعد بغض النظر عن القوى التي تمثلها تلك المقاعد. فتقليد الديمقراطية الغربية في قمتها هو المسيطر عليها. وكان ذلك طبيعيا نسبة لتوازن القوى. ولم تحفل الأحزاب بأن الديمقراطية لا تلغي الاضطهاد الطبقي، ولكنها تجعله أكثر وضوحا. وكلما كان نظام الحكم ديمقراطيا، أصبح العمال أكثر قدرة على رؤية صور الشر في الرأسمالية. هذا ما قاله لينين قبل أن تندثر أقواله مع انهيار الاتحاد السوفيتي وتغيير اسم مدينة لينينغراد إلى بطرسبيرج. لقد كانت ثورة أكتوبر حدثا كبيرا في مجرى السياسة السودانية. وقد لخصه عبد الخالق محجوب قائلا: إن الثورة واجهت الفئات التي تداولت الحكم منذ 1953 بالحقائق المذهلة التالية: أولا: من الممكن أن تنشأ في السودان حركة سياسية مستقلة عن تلك الفئات التي تداولت الحكم مدنيا كان أو عسكريا، والتي ظلت توجه الأحداث منذ الحرب العالمية الثانية. ثانيا: أن تكون هذه الحركة من الناحية الشعبية من منظمات مهنية ونقابية وجماعات سياسية لم يكن لها شأن كبير من قبل ومن أبرزها الحزب الشيوعي. ثالثا: أن تستطيع هذه الحركة نسف حكم قائم بطريقة مفاجئة للفئات ذات المصالح ومن بينهم القادة السياسيون البرجوازيون وأن تشكل سلطة لا تنتمي لتلك الفئات. رابعا: وهو الأمر الخطير – أن ينفصل جهاز الدولة عن السلطة الحاكمة وينضم إلى تلك القوى السياسية في عمل ثوري هو الإضراب السياسي. وكان هذا درسا قاسيا ارتجفت له الفئات الحاكمة والدوائر الاجتماعية من أصحاب المصالح والسلطة الدائمة. وانتهى تقسيم الدوائر كالآتي: النيل الأزرق 45 كردفان 36 كسلا 33 دارفور 24 الشمالية 17 الخرطوم 13 الجنوب 60 فبلغ عدد الدوائر 233 دائرة. وشارك في الانتخابات 12 حزبا سياسيا. وقاطع حزب الشعب الديمقراطي تلك الانتخابات، وكان ذلك موقفا متطرفا قصد به حزب الشعب أن يطهر أرديته من دنس التعاون مع النظام العسكري، ولكنه أضعف موقف حزبه والأحزاب القريبة منه من المشاركة الفعالة في الأحداث التي شهدتها البلاد. كانت نتيجة الانتخابات كما يلي: الأمة: 92 – الوطني الاتحادي: 73 – مستقلون: 18 – مؤتمر البجة: 15- الشيوعي 11 وكلها في الخريجين – سانو10: جبال النوبة 10 – جبهة الميثاق 5 كانت النتيجة مبعث رضى بالنسبة للأحزاب الكبيرة وكانت أيضا مبعث عدم رضى. فقد أصبح للحزبين الكبيرين أغلبية مريحة، ولكنها أغلبية تقوم على التحالف. فطغت المناورات الحزبية، وكان للحزب الوطني الاتحادي اليد الطولى في تلك المناورات، بالذات بعد انقسام حزب الأمة بين الإمام الهادي وابن أخيه الصادق. وانزعجت الأحزاب للنفوذ الذي تمتع به الحزب الشيوعي رغم عدد نوابه القليل. ولم يقتصر نشاطه على البرلمان حيث قدم معارضة قوية، فقد كانت صحيفته الميدان أكثر الجرائد توزيعا بين الجرائد الحزبية، بل لعلها نافست بعض الجرائد المستقلة. وكان اللقاء الذي يقيمه عبد الخالق كل أسبوع بإحدى دور الحزب في العاصمة يجذب إليه أعدادا كبيرة من المستمعين. وكان خطاب عبد الخالق محجوب في مؤتمر المائدة المستديرة الذي انعقد عام 1965 لمناقشة مشكلة الجنوب كانت له آثار سياسية ذات وزن بعيد المدى. لقد أتضح أن الديمقراطية اللبرالية لها منابر أخرى ذات تأثير غير البرلمان. ويبدو أن الحزب الشيوعي لم يعر اهتماما لتوازن القوى والتمييز بين قدرته في الإفصاح ونفوذه الأدبي من جانب وقدرته العددية.فكانت مذبحة الديمقراطية الكبرى في تاريخ البلاد. فما الذي حدث؟ أقدمت الأحزاب على حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان مستغلة أغلبيتها العددية في البرلمان. ولا نريد أن نعيد تفاصيل تلك المأساة فقد كتب عنها الكثير. (راجع على سبيل المثال كتابي: الإسلام والسياسة في السودان 1992، وكتابي: معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، 1999). وأسميها مذبحة الديمقراطية الكبرى لأنها رمت بكل التقاليد الديمقراطية عرض الحائط ولم تحفل إلا بأمر واحد وهو حل الحزب الشيوعي. ولكن واجهتهم عقبات، بعضها قانوني وبعضها سياسي وبعضها أخلاقي العقبة الأولى حول تعديل الدستور. وكان مبارك زروق قد تقدم بمذكرة عام 1958 حول مبادئ تعديل الدستور خلص فيها إلى أن دستور السودان من الدساتير التي لا يمكن تعديل مواده الأساسية. وعلق عبد الخالق محجوب عام 1967 على تلك المذكرة بأنها تعكس أولا تطلعات جماهير الوطني الاتحادي بعد الاستقلال مباشرة، ويمكن إجمال تلك التطلعات في تثبيت دعائم الديمقراطية، وهم كانوا ضمن الحركة الديمقراطية، وكانوا قوى خارجة وقتها من غمرة النضال. وتعكس أيضا موقف الحزب الوطني الاتحادي وهو في المعارضة ويدرك جيدا أن بقاءه مرتبط ببقاء الديمقراطية، في الوقت الذي بدأت القوى الحاكمة التنكيل بالمعارضة تعبيرا عن عجزها في الحكم. وتعكس أيضا الحياة السياسية عامة التي كانت تتمتع بجو أكثر صحة وعافية من جو التضليل والتهريج وتزييف الإسلام. (جريدة أخبار الأسبوع/ فبراير 1967) ولم تحفل القوى الحاكمة بذلك فأقدمت على تعديل الدستور أكثر من مرة حتى حققت هدفها السياسي. وكانت تلك أكبر مذبحة للديمقراطية في تاريخ السودان السياسي الحديث. وما زالت القوى السياسية مترفعة عن تقديم نقد شجاع لمشاركتها في تلك المذبحة، فقد أخذتها العزة بالاثم. ثم رفع الحزب الشيوعي قضية دستورية إلى المحكمة العليا. وحكمت المحكمة ببطلان التعديلات التي اتخذتها الجمعية التأسيسية لأنها تتعارض مع الدستور. وأصبح الحكم سابقة قانونية تدرس في الجامعات. فما الذي حدث في السودان؟ تمت المذبحة الثانية للديمقراطية. ولكن الضربة التي وجهت لقرار الحل جاءت في الانتخابات التكميلية في دائرة الخرطوم شمال وفي انتخابات عام 1967 .