(هو ورد.. وهي وردت.. فلما نظر إليها تعجّب منها..) هكذا قرأنا الحكاية بكتاب المطالعة بالمدرسة الأولية، ونحن أطفال صغار. الهدف من الحكاية، هو كيفية استخدام صيغة المذكر والمؤنث. ولم يلفت انتباهنا حينها شيء سوى ذلك. إلا أننا بعد أن كبرنا، تبين لنا أن للحكاية وجهاً آخر، ونهاية أخرى، مختلفة تماما. أصل الحكاية كما عرفناها، من مصادر لصيقة بزمان ومكان الحدث، أن هذه ما كانت النظرة الأولى من (حسن ود حاج محمد)، إلى( العاجبة بت الحسين)، أجمل بنات (حلة السيال). بل هي في الحقيقة، أجمل بنت في الناحية كلها على الإطلاق. وحسن ود حاج محمد، ثالث ثلاثة، تلقوا تعليماً، من بين صبيان الحلة. الأول، ( عمر ود الجاك)، ترك الحلة منذ زمن، ويقال أنه هاجر إلى بلاد الخواجات، وانقطعت أخباره. الثاني، ( علي ود حاج الزين)، بعد أن أكمل دراسته، توظف، سكن البندر، وماعاد يأتي إلى الحلة إلا للمناسبات. وثالثهم صاحبنا، ( حسن)، بعد تخرجه،عاد إلى الحلة، وفي انتظار الوظيفة، عمل مع والده بالزراعة. النظرة الأولى بين حسن والعاجبة، كانت في حفلة طهور ( ود بت المِنا). والنظرة الثانية، التي فتكت به، كانت في عرس ( حموده ود الكلس). ليلتها حين قامت للرقيص، وكشفت وجهها، وأسدلت شعرها الأسود الطويل، وأسبلت عينيها الواسعتان الكحيلتان، وتثنت وتمايلت، وبان امتلاء الصدر والكفل، ساعتها، أحس صاحبنا بقلبه يكاد يقفز خارجاً من بين ضلوعه. شعر بخدر لذيذ يعتري بدنه، تسارعت أنفاسه، وود لو يقفز داخل الدائرة، ليحملها ويخفيها عن تلك العيون النهمة، التي تحاصرها من كل صوب. ومن ليلتها، وخيالها لايفارقه. أمنية حياته أن يراها، ويتحدث إليها، ويفضي لها بمكنونات قلبه. أعراف وتقاليد الحلة، لا تسمح له بالانفراد بها، أو حتى محادثتها بالطريق. ماذا يفعل، والشوق اليها يكاد يقتله؟ تفتق ذهنه عن حيلة، يستطيع بها أن يراها ويحادثها، دون أن يخرق الأعراف والتقاليد. قدم عرضاً مغرياً (لحميدان) السقا، المسؤول عن (نشل ) الماء من بئر الحلة، وملء أواني النساء، اللائي يردن البئر، ليحل محله، وليومٍ واحدٍ فقط. (حميدان) زول شربه، عدد من عبَّارات المريسة، وزجاجة عرقي كاربة من (بت خميسة)، كانت كفيلة بتخليه لصاحبنا عن المهمة. - يوم واحد بس يا ود حاج محمد، ماتعمل لي مشاكل هكذا قال له (حميدان ) محذراً. من الفجرية، كان صاحبنا يقف عند البئر، يملأ صفائح الماء. عين على الطريق، وأخرى على الدلو. وجاءت ( العاجبة) تتثنى في دلال، كل العالم اختفى من ناظريه إلا هي. ثلاثة مرات يملأ الدلو، ويدلقه على الأرض، متجاهلاً تذمر المرأة العجوز، التي تقف بجانب (العاجبة): - ياود حاج محمد، مالك ومال كب الموية، ده تعليمك الاتعلمتو ؟ أخيراً استطاع أن يملأ صفيحة( العاجبة )، ويساعدها في حملها. حاول الكلام، إلا أن الكلمات احتبست في حلقه: - الله يعافيك يا حسن هكذا ترنمت ( العاجبة)، بعد أن رمته بنظرة من طرف عينها، وهي تنصرف مبتعدة، تتمايل بغنجٍ ودلال، تترجرج عجيزتها مع إيقاع خطوها الرشيق. موسيقى، حُلم. وقف صاحبنا ينظر إليها وهي مدبرة، جاحظ العينين، متجمد الجسم، وكأنه قُدَّ من حجر. فجأة ارتعش جسده بعنف، رمى الدلو، وأطلق ساقيه صوب الخلاء، رافعاً يديه في الهواء، وهو يصيح: - ياناس الحلة هووووووي العاجبة كتلتني، ياناس الحلة هوووووي العاجبة كتلتني. مسكين، انتهى به المطاف مقيداً بخلوة ( الفكي ود ابراهيم)، غائباً عن الوعي. حين يفيق يئن بصوت مبحوح: - ياناس الحلة هوووي ... هذه هي الحكاية الصحيحة كما سمعناها: (هي وَرَدَتْ، فلما نظرت إليه، وكلّمته، فقدَ عقله). الطيب محمود النور [email protected]