كنت أتمنى أن يتيح لي الزمن الرد على كل تعليق من الذين يختلفون معي و أكن لهم الاحترام ، لكن الوقت لا يسعف .. باختصار أقول أن هناك اعتراضا على ما رويت عن جمال القرشيات حين فتح مكة و هو الحديث أو الأثر الوحيد الذي لم أذكر مصدره و ها أنا أورد الحديث هنا للاستدراك برواية تختلف اختلافا طفيفا. ورد في مغازي الواقدي الجزء الأول ص 866 : قال حدثني ابن أبي ذئب ، عن الحارث بن عبد الرحمن بن عوف وإبراهيم بن عبد الله بن محرز قالا : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جلس عبد الرحمن بن عوف في مجلس فيه جماعة منهم سعد بن عبادة ، فمر نسوة من قريش على ذلك المجلس فقال سعد بن عبادة : قد كان يذكر لنا من نساء قريش حسن وجمال ما رأيناهن كذلك قال فغضب عبد الرحمن حتى كاد أن يقع بسعد وأغلظ عليه ففر منه سعد حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ماذا لقيت من عبد الرحمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما له ؟ فأخبره بما كان . قال فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان وجهه ليتوقد ثم قال رأيتهن وقد أصبن بآبائهن وأبنائهن وإخوانهن وأزواجهن خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد وأبذله لزوج بما ملكت يد ... انتهى . الذين يختلفون معي بعضهم يرى أنني لا التزم برؤية مؤسسي العلمانية ... و لعمري لم أسمع بأن هناك جهد بشري في العلوم الإنسانية يوصف بأنه يجب أن يُتبع ، يقال ذلك لاتباع الأديان أو الطوائف أو الطرق الصوفية ... العلمانية تكونت من آراء و تصورات تكاملت ، ساهم فيها الآلاف إن لم يكن مئات الآلاف من المفكرين و المكافحين ضد الظلامية و النخب السياسية ، تجاوزت التجربة الإنسانية كثيرا من تلك الافكار و الاجتهادات و طورتها ... لا تنسب العلمانية لشخص أو لمجموعة أشخاص و يمكن أن نكتب عنها كتابة أكاديمية مختصرة مستعينين بالمراجع ، رغم إني لا أرى ذلك مهما الآن ، لأننا مواجهين بمعركة بين قوى الظلام و الشر و قوى تكافح لتفتح كوة في هذا الظلام الدامس ، و لنتذكر أنه لا أحد يحدد للآخر ماذا يكتب و كيف يكتب ... لعمري أنه لأمر غريب أن يقبل المنتقدون تجاوز أو إعادة الفهم في نصوص دينية لكنهم يريدون لمعارضهم أن يلتزم بمنهج بشري و حسب تصورهم الذي يبدو صمديا راسخا في عقولهم و إلا فهو يسبح في الظلام ... هب أن هناك منهجا و نظرية كهذه فمن حق أي باحث أو مجتهد أن يدلي بآراء و تصورات و مفاهيم مخالفة ، شرط أن يدعم حججه حسب المنهج العلمي ... و الأغرب أنهم ينكرون واقعا مطبقا بتفاوت في كل العالم تقريبا عدا الدول الإسلامية... تقول لهم : انظروا ذاك هو الأسد ، لكنهم يقولون لك و بعناد غريب : الأفضل أن نقتفي أثره . أثناء معاركي الفكرية الداخلية و الخارجية لإيجاد توازن نفسي إنساني داخلي و توازن تجاه الآخر ، تبينت قيمة العلمانية . لم يتم الأمر بين يوم و ليلة إنما استلزم سنوات من القراءة و التفكير و النقاش . استباقا لما أريد توضيحه أتمنى أن يقرأ المهتمون كتابات مثل : (العلمانية كإشكالية اسلامية إسلامية) لجورج طرابيشي و هو الكتاب الذي يبين سخافة الفكرة بأن العلمانية كانت صراع مسيحي مسيحي أو عقلاني مقابل مسيحي فقط و يثبت الكاتب انها إشكالية إسلامية إسلامية بامتياز أيضا . و كذلك سفر الدكتور عزيز العظمة الضخم : (العلمانية من منظور مختلف) ... و حبذا لو قرأ المهتم كتاب (العلمانية على محك الاصوليات: اليهودية، المسيحية والإسلام كارولين فوريست وفياميتا فينر، ترجمة: غازي أبو عقل) و هذا الأخير لخص المترجم فكرته التي سأتناول صورتها العامة . أذهلني منذ البداية تشابه الأصوليات الثلاث : اليهودية ، المسيحية و الإسلامية في موقفهم الصمدي من العلمانية . صحيح أن الأصولية اليهودية و المسيحية موقفهما ضعيف تجاه العلمانية أما الأصولية الإسلامية المسيطرة على الشعوب الإسلامية فهي في مرحلة الهجوم بشراسة (لكن يوما بعد يوم تتكسر نصالها و لكن ببطء) . أحيانا عندما تقرأ للأصولية اليهودية تجد أنك لو استبدلت بضع كلمات لشككت أنك تقرأ لابن باز ، و كذلك استبدال بضع كلمات من خطاب أصولي مسيحي يجعلك تتصور أنك تقرأ للشيخ ابن عثيمين أو الشيخ عبد الحي مثلا . قبل أن أتناول النقاط المهمة في تلخيص غازي أبو عقل سأورد نماذجا للاعقلانية الأصوليات و: يقول غاري بوتر رئيس الحركة السياسية الكاثوليكية للمسيحين في أمريكا : "عندما نتسلم الأغلبية ستصبح التعددية غير أخلاقية و شريرة و لن تسمح الدولة بارتكاب الشر ." ... الشر الذي يعنيه بوتر كما يتجلى دائما في خطبه و كتاباته ، لا يعني فقط الأعمال المخالفة لرؤيته أو للقانون ، بل يشمل حتى الأفكار و الأعمال الشخصية التي لا تروق للأغلبية المسيحية ، تماما كما عندنا هنا ، فالشر لا يعرّف بأنه أفعال ترتكبها بل ما يحيك في ضميرك الذي تُسأل منه : ما هو اعتقادك ؟ فإن لم يكن كاعتقاد القطيع فأنت تستحق الموت ... و يقول راندال تيري مؤسس حركة الإنقاذ الأمريكية في إحدى تعليقاته : " أريد موجة من الرفض تجتاحكم ، أريد موجة من الكره تملأكم ، نعم الكره جيد .... هدفنا هو دولة مسيحية ، لدينا واجبات انجيلية و الله نادانا لفتح هذا البلد . نحن لا نريد مساواة و لا نريد تعددية ، هدفنا يجب أن يكون بسيطا ، علينا أن نكوّن دولة مسيحية مبنية على قوانين الله ، على الوصايا العشر ، لا حرج علينا في هذا ." ..... انظروا لحقوق المرأة عند بات روبرتسون مؤسس التحالف المسيحي (كان مرشحا لمنصب الرئاسة الأمريكية داخل الحزب الجمهوري عام 1988 منافسا لجورج بوش الأب و حصل على ثلاث ملايين متبرع للعمل في حملته الانتخابية ) قال روبرتسون : " أعرف أنه من المؤلم لامرأة أن تسمع ما أقول ، لكنك حين تتزوجين فأنت قبلت برئاسة الرجل ، المسيح رأس الكنيسة و الزوج هو رأس المرأة ، ذلك هو الطريق الصحيح ، نقطة انتهى النقاش . " .... طبعا ليذهب العلمانيون إلى الجحيم لأن الرب قال ذلك فلا نقاش (حسب وجهة نظره) ... الرجعية السياسية المسيحية المتصهينة تنشر جوا من الرهاب الديني و الإرهاب السياسي ، مستغلة ما رسخته عبر اعلامها و نفوذها المالي و السياسي و الديني من بديهيات غير قابلة للنقاش (كما عندنا تماما) تجعل المجتمع الأمريكي متسامحا مع أفظع تصرفات اسرائيل الهمجية تجاه الفلسطينيين (مثلما يتسامح مجتمعنا النيلي و الشمالي عامة و التجمعات المستعربة غربا و شرقا مع فظائع و بشاعة جرائم الحكومة الإسلامية في الجنوب أيام الجهاد و في دار فور و مناطق الصراع اليوم) لدرجة تجعل نسبة اليهود الذين يعيشون في اسرائيل و ينتقدون ممارسات دولتهم (المستنيرين و اليسار بصفة عامة) أكبر بكثير و أكثر جرأة مما يستطيع الإعلام الأمريكي الذي وصفه جورج فندل بعبارة : (من يجرؤ على الكلام) .... ( نسبة العقلانية بين يهود أمريكا كبيرة جدا كما سنرى) . الستارة الدينية تعمي عن الفظائع و تبرر التوحش كما لاحظنا في دراسة تامارين . المسيحية المتصهينة و الأصولية اليهودية من مصلحتهما ازدياد التدين الأصولي في العالم الإسلامي ، فإسرائيل و أمريكا و أوربا انجزت الحداثة و تأثير الأصولية على منجزات الحداثة ضعيف على المدى القريب (لكن لا أحد يجزم ماذا يحدث غدا إذا اشتد أوار الأصولية و سيطرت اللاعقلانية) أما في العالم الإسلامي فإن الأصولية الإسلامية ستنشر اللاعقلانية و تؤخر و تعيق تقدم الشعوب بمحوها لأي فكر نقدي لأنها تنشر فكر التسليم ، كما إنها تشرعن للدعاوى اليهودية باستخدام النصوص و يصاحبها بالضرورة تفتت المجتمع و نكوصه لقيم تجاوزها ، من قبلية و كراهية الآخر المختلف و تبرير القمع و ضيق أفق . الأصولية لا تنظر للأمام إنما للخلف و عندها الحاضر يستمد مشروعيته من الماضي المقدس ، و هو ماض اجتهدنا لنبين أنه ماض وهمي لم تجر أحداثه بتلك الصورة التي يرسمونها ، ماض إذا كان يهوديا أو إسلاميا ، كان مليئا بشلالات الدماء و الرق و تردد أصواته أنات السبايا . لاحظ علماء الاجتماع أن ظروف التطور المادي لها انعكاساتها على العقل الإنساني و تشكيل الوعي و تحولاته فالمجتمع الرعوي و الزراعي مثلا ، أكثر ميلا للاعقلانية من المجتمع الصناعي ، فإن تنتظر المطر طلبا للكلأ و تراقب نمو الزراعة و لا معرفة علمية لك بالآفات ، لا يتشكل وعيك مثل ذاك الذي يعيش في مجتمع صناعي يستيقظ فيه الفرد في وقت محدد و يعمل بنظام محدد و ينتظر دخلا محددا ... صارت العقلانية و البرجماتية هي التي تحكم تصرفات أفراد ذلك المجتمع لمدى بعيد . لكن تطور الفكر و تحولاته أمر معقد بحيث لا يمكن اختزاله في عامل واحد ، لذا نجد أن المكافحين السياسين يجتهدون في تغيير الواقع البائس لشعوبهم لخلق واقع أفضل يفيق فيه الفكر من إحباطاته التي تجعله أكثر قابلية للبحث عن الخلاص الآخروي فيتلقفه الأصوليون . أكبر نسبة من المتدينين تدينا خلاصيا هم الفقراء و الكادحين الذين لا يجدون وقتا للتفكير سوى في التعويض في اليوم الآخر ، أي أن المستَغلين (بفتح الغين) هم أكثر من يساندون مستعبديهم أولئك الذين يحدثونهم عن الجنة في العالم الآخر و يعيشونها هم في الدنيا ، فهم يأكلون أطيب الطعام و يسكنون أفخر المساكن و يقتنون أرقى السلع من السيارة مرورا بالموكيت وصولا إلى السبحة ... لماذا لم تستطع الأصولية الدينية اليهودية في اسرائيل السيطرة الكاملة على المجتمع الاسرائيلي ؟ نتذكر أن سيطرة النازيين في ألمانيا مثلا نتجت لظروف كثيرة من ضمنها تأجيج الشعور القومي و التطلع لما يعيد الفخر الألماني بعد الهزيمة و الحالة الاقتصادية السيئة ، طبعا الانتهازية السياسية و السلم الذي يُستخدم لمرة واحدة (الديمقراطية) و المكر و الخداع و نسج الأكاذيب و التضليل الذي مارسه النازيون كان له دوره (مثلما يمارس الإسلاميون الديمقراطية تماما) و الأهم لا مبالاة الأغلبية الصامتة من الألمان. لم تستطع الأصولية الاسرائيلية السيطرة الكاملة على المجتمع حتى الآن (لكن تأثيرها ملحوظ بدرجة كبيرة) لأن العقلانية لا زالت مؤثرة في المجتمع الإسرائيلي و ذلك من مواريث الديمقراطية العلمانية مما يصعب تجاوزها . لو تصورنا انتصار الأصولية المسيحية المتصهينة في أمريكا و استيلاءها على عقل المجتمع و مقاليد الدولة ، و انتصار الأصوليات في أوربا (مع تنامي نفوذ اليمين الرجعي) فلنا أن نتصور شن الحروب المقدسة لهذه الأصوليات ، و أول ضحاياها سيكون العالم الإسلامي . لن تكون حرب كحرب فيتنام أو العراق أو غيرها ، لا ... ستكون حروب إبادة ، فنشوة المؤمن بإبادة الكافر نشوة لا تدانيها نشوة ، لأنها تصور له إبادة الشر و انتظار الثواب هناك ، و كما قال باسكال : لا يرتكب الإنسان الشر مثلما يرتكبه باسم الدين ... لذا صلوا من أجل ترسيخ العلمانية ... سنتناول تاريخ صعود الأصوليات الثلاث و سبب صعودها مع ما سنتاوله من خلاصة تلخيص مترجم (العلمانية على محك الاصوليات: اليهودية، المسيحية والإسلام كارولين فوريست وفياميتا فينر) و غيره ... ملاحظة : اتمنى من ذاك الذي يكتب تعليقاته باسم ماجد سرحان أن يختار اسما آخر حتى لا يربك القراء الذين قد لا يفطنون للاسم المختلف .. [email protected]