سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    حقائق كاشفة عن السلوك الإيراني!    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مابعد الحداثية واسرارها: دين بلا دين ..ترجمة : زيد العامري الرفاعي
نشر في حريات يوم 17 - 05 - 2013


ترجمة وإعداد : زيد العامري الرفاعي
يمكن القول … بان كانط وهيغل ، وبالطبع كيركجرد،….وهيدجر ايضا، ينتمون لهذا النوع من الخطاب المنطوي في تكوينه على نسخة عقيدة غير دوغمائية، اي تكرار فلسفي وميتافيزيقي لها ، والتي هي باي حال من الاحوال عبارة عن تفكير "يعيد ويكرر" امكانية دين بلا دين. "جاك دريدا : هبة الموت ص 59"
بادئ ذي بدء أطرح فرضيتي التي اقول فيها زاعما: ان تاريخ كل من الحداثة ومابعد الحداثة، من منطلق ما، انما هو تاريخ ذي صبغة دينية (ولكنه ليس تاريخ للدين) انتظم حول سر ديني اساسي- الا وهو دين بلا دين، او سر بلا سر. وتعتبر الرؤية الدينية ، من وجهة نظر معظم تيارات الفلسفة الاوربية المعاصرة حاليا، اساسية (ان لم تكن الاساسية) في عملية التحليل النظري. ولقد فرضت الاحداث السياسية وبالاخص احداث سبتمبر 2001 على كثير من المفكرين الانشغال والاشتغال بقضايا الدين والمشاكل المرتبطة بها من عنف وسياسة وارهاب. وحسبما يقول جون كابوتو(John D. Caputo) [وهو الامريكي الرائد في الفلسفة الاوربية ومفسر دريدا]، ان الحقيقة المطلقة النهائية لمابعد الحداثية التفكيكية تؤكد ان: " السر …هو عدم وجود سر Secret ".
ويبدو هذا القول بعدم وجود سر (Secret) لكثيرين انه يدل ضمنا وفي افضل الاحوال على نسبية اخلاقية، وفي اسوءها على العدمية. ومع ذلك فهذا الاستنتاج، عند كابوتو، يردد على ما يظهر صدى مقدمة نقد العقل المحض لكانط والتي يقول فيها انه اجبر على انكار المعرفة لكي يفسح مجالا للايمان.وفي كتابه صلوات دريدا ودموعه (The Prayers and Tears of Jacques Derrida)، وهو تفسير رائع لاحدث كتابات دريدا، يؤكد كابوتو بان فلسفة دريدا تفضي لتجسيد وجود ايمان مؤكد وبالتالي اعتناقه وتبنيه. ويعتبر السر هو بنية الايمان ، وعليه فهو " الانشغال الوجداني بالمجهول" الذي استحالة ادراكه هي التي تمد الايمان بمقومات بقاءه واستمراره.ان مفهوم سر بلا سر(Secret) يعني في الوقت نفسه مفهوم دين بلا دين، إذ بامكان المرء ان يعتبر متدينا بدون ان يكون بالضرورة منتميا لعقائد ومبادئ وافكار دين منظم معين لكي ينشغل انشغالا وجدانيا بالمستحيل.
يؤكد كابوتو في كتابه عن الدين (On Religion)، ان تفكيك كل من اليقينيات العلمية للحداثة والعقائد المنطقية لايقود للالحاد بل الى وضع " نجد فيه استعادة او اعادة لحالة الايمان في مرحلة ماقبل الميتافيزيقية " . ومع ان كابوتو في ادعاءه هذا يعتمد جزئيا على ارث مسيحية القرون الوسطى ، الا انني اود التاكيد بوجود صلات مهمة بين استنتاجات كابوتو لما بعد الحداثة والحداثة التقليدية، والتي تقودني لطرح فكرتي وهي ان ثنائية الحداثة ومابعد الحداثة، انما تدور حول فهم السر. بعد ان اتناول بعض اصداء السرية عند سبينوزا وكانط، اعود لدريدا من اجل توضيح بعض اوجه تاملاته الثابتة عن الدين، في كتابه هبة الموت، قبل الرجوع الى كابوتو في النهاية.
اسرار الحداثة
1- سبينوزا
يمكننا تناول اصول الحداثة الاوربية وتاريخها من خلال الوقائع كما من خلال العقائد،غير انني اقصر تحليلي هنا حول التنظير وعلاقته بالدين. يتميز مفهوم العالم الحديث، في احدى ابعاده ، باقامة سلطة سياسية علمانية ذاتية مستقلة عن المصالح الدينية الصريحة. وفي هذا الاطار، كانت فلسفة سبينوزا هي المهماز الاولي للدفع باتجاه هذه النتيجة، رغم حقيقة ان معظم الاوربيين المطلعين على فكره انذاك لم يعطوه حقه من التقدير والاحترام. وكما يوضح جوناثان اسرائيل في دراسته عن التنوير الراديكالي، فسبينوزا " ظهر بكونه البعبع الفلسفي الكبير لاوروبا في بداية عصر التنوير." إذ طرح سبينوزا من خلال رسالته، المثيرة للجدل، في اللاهوت والسياسة ؛ اضافة لرائعته علم الاخلاق، ارضية علمانية تماما للتنظير الذي كان محور تركيزه الاساسي هو الله . ونظر لهذا اللون من التنظير باعتباره موضوع فكر عقلاني صرف وواضح. وبسبب تعقيد عرضه الهندسي فلم يفهمه معظم قراءه ؛ غير ان هدفه النهائي كان تقديم برهان مقنع عن قيمة التفكير العقلاني.
ففي رسالة اللاهوت يعلن سبينوزا ان الدين " اساسه صدق القلب واخلاصه وليس الافعال الخارجية، لذلك فالدين لايدخل ضمن اختصاصات القانون والسلطة العامة."يقارن سبينوزا هذا الفهم الاساسي للدين بكونه شعور بشري مع" الجهود الشنيعة … التي بذلت لتجميل الدين… عن طريق المراسم والشعائر، التي تسهم وتساعد في التصدي لاي صدمة فضلا عن ضمان استمرار كل المؤمنين بتوقيرها واحترامها." إذ يستغل الطغاة الدين شر استغلال لتغطية مصالحهم الوضيعة من اجل ابقاء البشر في عبوديتهم . يناصر سبينوزا مجتمعا حرا ضد" السر الكبير للطاغوت"، الذي يهدف الى "ابقاء الناس في حالة تضليل" باستخدام "عنوان الدين الفضفاض للتغطية على الخوف الذي به يحكمون."فالوظيفة الحقيقية للدين هي مساندة مسعى صريح وامين للعقل في سعيه للمعرفة والحرية. يجب معارضة السرية في الدين، لانها تدل على فساد الدين فضلا عن استخدام الطغاة له لتعزيز الخوف والخرافات لغايات سياسية.
يقدم سبينوزا، في كتابه علم الاخلاق، نموذجا هندسيا استقرائيا والذي فيه يساوي الله بالطبيعة ويستعرض طرازين متوازيين للتعبير عن هذا الجوهر الواحد (الله او الطبيعة)، و الفكر الواحد والامتداد الواحد . وهنا ينتقد سبينوزا ثنائية ديكارت وفي الحقيقة يجعل من فكر ديكارت فكرا اكثر اتساقا حين يستنتج ان الكيانات العقلية والكيانات المادية ما هما الا تعبيران متوازيان لجوهر اساسي واحد. وأشكل على الفلاسفة الالمان المتاخرين فهم مضامين نظام سبينوزا من حيث كونه مؤمنا بوحدة الوجود ام ملحدا، الا ان مساهمة سبينوزا الاساسية حسب مايقول دولوز كانت " رسم مخطط عام لفكرة الحلول حيث تجد كل الاجسام وكل العقول وكل الافراد موقعا لها فيه". يعني ، ان اصرار سبينوزا على جوهر واحد قد اضعف وهدم افكار القرون الوسطى والافكار الديكارتية عن التسامي (transcendence) وتاكيداتها على وجود كون منقسم المستويات. وبدلا من ذلك، فقد دمج سبينوزا ثنائية الفكر والمادة في مستوى واحد ثابت متسق بالغاء الفرق بين الله وبين الطبيعة. تطرح عقلانية سبينوزا رؤية واضحة وفهم واضح في طبيعة العالم والله في فجر عصر التنوير، ومايتبعها من مضامين مهمة للايمان الديني- رغم ان المتدينين عادة مايردون سلبا على هذه النتائج.
يقدم يرمياهو يوفل في كتابه (سبينوزا وهراطقة اخر)، سياقا تاريخيا عن حياة سبينوزا وفكره. ففي العام 1492 الذي "اكتشف" فيه كولومبوس امريكا، سقطت مدينة غرناطة بيد الملكة ايزابيلا والملك فرديناند وطردوا المسلمين من اسبانيا. وفي الوقت نفسه، خيروا جميع اليهود بين اعتناق المسيحية والنفي. ومن ثم انشأت محاكم التفتيش الاسبانية اساسا "لتطهير الارض من الهرطقات والتلوث الديني للمسيحيين المتهودين (Marranos) ." إذ ان هذا المصطلح يعني اليهود الذين اجبروا على اعتناق المسيحية (conversos) لكي يتجنبوا النفي لكنهم مارسوا سرا دينهم السابق. وهرب كثير من يهود اسبانيا الى البرتغال التي سمحت بحرية ممارسة شعائرهم الدينية حتى نهايات القرن الخامس عشر، حين تبنت البرتغال بسبب التحالف الملوكي مع اسبانيا، سياسة الاكراه على اعتناق المسيحية او الطرد واقامت محاكم التفتيش الخاصة بها. ففر بعد ذلك كثير منهم الى انحاء اخرى في اوروبا.
هاجرت اسرة سبينوزا من البرتغال الى امستردام في القرن السادس عشر. ومع انه ولد يهوديا الا ان معظم الناس المحيطين به كانوا من المتحولين السابقين الذين حملوا معهم من اسبانيا مؤثرات وغنى تقاليد المتحولين بما فيها التعليم الكاثوليكي واسرار استخدام الرموز."يشير يوفل الى ان اختلاط المسيحية الكاثوليكية المنفتحة واليهودية السرية المنغلقة انتجت هجينا غريبا: " إذ نرى اختلاط الاديان واضح في العادات السرية وفي طقوس المتهودين ممن كانت بنيتهم يهودية ولكنهم تشبعوا بعناصر وتفسيرات كاثوليكية."لذلك، فالى جانب النقاش الدائر في هولندا حول توصيف فكر سبينوزا من حيث كونه مسيحي ام يهودي، نجد ان اساس اسرته والسياق التاريخي يؤكد ويقدم دليلا على تقاطع الحدود الدينية، فبينما يؤدون طقوس وشعائر احدى الاديان بصورة علنية نجدهم يحرصون على سرية اداء طقوس الدين الاخر. ولكن حينما شارك ابواه باقامة تجمع يهودي منفتح في امستردام فضلا عن الانخراط فيه، فانهم اصبحوا بعد ذلك يهودا من جديد(reconversos) والذي كان امرا غير شرعي لكن الهولنديون تغاضوا عنه لفترة. وفي هذا السياق، فالدين الذي كان سريا اصبح الان علنيا وان كان في بيئة ليست متسامحة تماما؛ ولكن ممارسة الشعائر المسيحية السابقة تركت بصماتها في الفكر والثقافة مثلما تركتها في ممارسة الشعائر اليهودية وفي اللاهوت اليهودي. ويذكر يوفل مثالا على ذلك هو الاهتمام الميتافيزيقي عن الخلاص الذي استبدل قانون موسى باليسوع باعتباره الشفيع الضروري.
عانى هؤلاء المسيحين المتهودين(Marranos) (سواء ظلوا في اسبانيا او هاجروا منها ) لضغط كل من المجتمعات اليهودية التقليدية المتشددة وكذلك الاحبار الذين اشنعوا عليهم فعلتهم باعتناق المسيحية رافضين اعتبارهم يهودا. ولم يتقبل مجتمع اليهود البرتغاليين في امستردام بحوث سبينوزا وافكاره النظرية مما ادى اخيرا الى حرمانه وطرده عام 1656 . يلاحظ يوفل ان هؤلاء المتهودين تقاسموا منفى واغتراب عموم اليهود، ولكنهم كانوا يعانون، بالاضافة لذلك، الاغتراب الذاتي في دواخلهم: " عانوا النفي داخل النفي- فهم منفيون بين الناس لكونهم يهود ،وهم منفيون من اليهود انفسهم."واحيانا نجد في مقابل هذا الهجين الديني للمسيحيين المتهودين، حماسا مسيحيا شديدا ضمن المتحولين للمسيحية (conversos) الذين اعتنقوا ايمانهم الجديد بكل وجدانهم لكنهم ماكانوا قادرين على التخلص تماما من سلطة وعبء ايمانهم القديم. يؤكد يوفل ان كثيرا من المتصوفة الاسبان وبضمنهم القديسة تريسا الافيلي والقديس جون الكروسي هم من المتحولين (conversos). اما في حالة سبينوزا رغم انه كان صديقا لكثير من المسيحيين ورغم تاثره الكبير بمعلمه الكاثوليكي (فان دير انده)، الا انه لم يعتنق المسيحية. وفي كلتا الحالتين فان اتحاد االعقيدتين او اختلاطهما يتسببان في فقدان النفس لطمانينتها واستقرارها مؤديا لظهور الاغتراب الداخلي الذي بدوره يفضي الى اعتناق العلمانية وتبنيها.
نفذت الثنائية الدينية الى داخل شعور (وحتى لاشعور) كثير من المتهودين المتحمسين ، لدرجة يصعب معها اعتبار الشهداء والابطال منهم يهودا بالمعنى التقليدي. ونلحظ هنا ان الصفة السرية للعبادة والتعليم الكاثوليكي وانعدام الارشاد اليهودي، والمزيج الذهني للعقيدتين، والانعزال عن المجتمعات اليهودية خارج اسبانيا كلها ساهمت في خلق ظاهرة فريدة في تاريخ الدين وبنيته الاجتماعية: شكلا من الايمان لا هو بالمسيحي و لا هو باليهودي.
وبينما ادت المطاردة وقسرية اعتناق المسيحية الى تشديد الايمان والممارسة الدينية، وان كانت غير ارثودوكسية، يرى يوفل " ان اختلاط المسيحية واليهودية ادى في النهاية وفي كثير من الحالات الى فقدانهما معا". قد ينظر المتشددون من المسيحيين ومن اليهود لهذه الظاهرة فضلا عن الحداثة العلمانية بعين اللارضى ، لكن من الضروري ملاحظة ان هذه العلمانية التي ولدت من رحم معاناة النفي والاغتراب ليست غير دينية بل انها ذات اساس ديني عميق. هذا الايمان العلماني هو دين بلا دين، اساسه الايمان السري الذي، بعد ان اكتمل وحقق ذاته، فشل في الختام ان يعمل سرا فضلا عن ان يكون سرا.
زيادة على ذلك، بتحليل السياق الاجتماعي والتاريخي المحيط بنشوء فكر سبينوزا، يربط يوفل هذا التطور بالانتاج النظري العميق لاسبينوزا بدون اختزال وارجاع فكر سبينوزا الى مجرد تاثير الظروف التي احاطت بحياته. وتعتبر فلسفة اسبينوزا هي اول فلسفة حديثة وعلمانية (رغم ان كثيرين يرون اتصاف فلسفة ديكارت بهذه التسمية)، لانها صدرت عن قاعدة دينية معقدة اساسها المتحولون للمسيحية، فمسيحين متهودين، فالرجوع ثانية لليهودية (conversos, Marranos and reconversos) وخليطها الهجين من اليهودية والمسيحية.ان اصرار سبينوزا على وضوح التفكير واشهاره علانية والاستقراء الهندسي في معارضة لسرية وتضليل المؤسسات الدينية والسلطة الكنسية انما هو في جزء منه رد على السر الكامن في قلب هويته الدينية نفسها.
2- كانط
يمثل كانط قمة فكر التنوير الاوروبي فضلا عن انه هو الذي فصل فصلا شديدا بين الدين باعتباره ضمير بشري او واجب اخلاقي معتمد على العقل وبين الدين المعتمد على الامور الخارجية، والممارسات الامبيريقية (empirical) والاعتقادات، او العقائد الخرافية. ويساند كانط دينا " ضمن حدود العقل وحده،" والذي يكون مشابها في وجه ما لدين بلا دين. يحلل كانط في نقد العقل المحض الشروط الترانسدنتالية (transcendental conditions) لامكانية معرفة شي ما وهذه الشروط هي شروط صورية اكثر منها امبيريقية(empirical). والتفكير يخص الذات البشرية في توجهها نحو الواقع والحقيقة اكثر مما يخص الله باعتباره موضوعا للفكر او للايمان. ويتبع كانط خطى سبينوزا في جعل جوهر الدين صوريا وداخليا اكثر من ارتباطه بالمضمون الخارجي. وينشغل كامل فكر كانط بمسالة الدين، حتى لو كان الدين نفسه ليس مادة للنقد. فنراه يحدد في كتابه Opus Postumum جوهر الدين باعتباره ضميرا بطريقة تردد صدى استنتاجات الاخلاق الكانطية:
الدين هو صحوة الضمير ويقظته. هو قدسية قبول ما يجب ان يعترف به المرء ويبوحه لنفسه، فضلا عن مصداقيته. اعترف لنفسك. ولايعد مفهوم الله (ولاحتى المصادرة القائلة: الله موجود) امرا اساسيا في امتلاك المرء لدين ما .
ومما يميز كل من الدين والاخلاق انما هو التزام الاعتراف بصدق وبصراحة ، والذي يحول بالتالي دون كتمان الاسرار.
في مقالته ماهو التنوير؟ يؤكد كانط ان التنوير يعتمد على الممارسة الحرة للعقل العام عند الفرد . ويعتقد ان الاستعمال العام لعقل المرء يجب ان يكون دائما حرا وهو وحده القادر على احداث التنوير بين الناس؛ اما الاستعمال الخاص للعقل فربما يكون محدود الاستعمال دون ان يعيق تقدم التنوير". الممارسة العامة للعقل تحظر السرية؛ لانه يجب ان يكون صريح واضح وسهل المنال لكل العقلانيين من البشر رغم النبرة الذكورية في لغة كانط. إذ ان اي ممارسة سرية او اي جمعية سرية لن تنعم سوى بحرية محدودة من الحكومة. يؤكد كانط في كتابه ميتافيزيقيا الاخلاق " يمكن لرابطة او جمعية للمتنورين السياسيين او الدينيين ان تبقى سرا" ولكن بصورة مؤقتة لانه" نزولا عند رغبة الشرطة يجب ان لاترفض عرض وتبيان دستورها". هذا هو كانط الذي يصفه كابوتو بكونه "شرطي يقوم بدورية على حدود الممكن".
ويعارض كانط كتم الاسرار في الفلسفة، وفي العقل العام، وفي تطبيق القانون الاخلاقي العام. لان اي سر ، كما يقول في كتابه اساس ميتافيزيقيا الاخلاق، سيشكل استثناءا يبطل الامر المطلق القائل بان عمل المرء قد يصبح قاعدة سلوك للقانون الاخلاقي العام. وسيؤدي الاقتضاء او اللزوم العام لكتمان السر او الاسرار للتناقض لان هذا الموقف سيستبعد امكانية اي اباحة او افشاء علنية.في كتابه صراع الملكات، يخصص مكانا للملكة الواطئة الخاصة بالفلسفة نسبة الى الملكات او القوى الراقية للقانون والطب واللاهوت لكنه يؤكد ان الموقع الثانوي الواطئ لملكة الفلسفة يوفر لها حرية وانفتاحا لاتستطيع القوى الراقية توفيرها لانها منشغلة بالامور السياسية والعملية. "بما ان ملكة الفلسفة مطلوب منها ان تجيب عن حقيقة التعاليم التي تتبناها او تسمح بها،فيجب النظر اليها على انها حرة وتطيع او تخضع فقط لقوانين العقل والمنطق وليس قوانين الحكومة“.
وبالطبع نجد ان كثيرين يشككون في امكانية ان يقوم العقل بوظيفته دون اية تاثيرات عملية او سياسية وبمقدور المرء ان يتهم كانط بالخداع والنفاق لما يبدو انه يشير ويوحي بان الملكات الراقية للقانون والطب واللاهوت تحتل اولوية بينما يقوم هو فعلا بالحط منها لمصلحة ملكة الفلسفة الواطئة ومنطقها الحر المنفتح الموضوعي. فهل يلبس كانط افكاره بغطاء المقبولية السياسية والدينية لكي يقصر الحرية على التفلسف؟ أهذا موقف ديني،وهو عبارة عن فلسفة انسانية مقنعة بثوب الدين، خاص بعصر التنوير وببناء حداثة علمانية عامة؟ام ان فلسفات سبينوزا وفلسفات كانط الدينية “ النزيهة “ عبارة عن اديان بلا دين كما اشار دريدا؟ فالسر(العقل ، الفلسفة، والتنوير )، بالنسبة للحداثة، هو عدم وجود سر- Secret – (الوحي، الرب مثلما هو معروف عقائديا ووجدانيا). لذلك يجب استخدام سر المعرفة العامة او المعرفة العامة غير السرية ضد من يدعون ان بحوزتهم السر(Secret) بما فيهم معلمي اسرار الدين واللاهوتيين.ومثلما ان التنوير هو نفسه عبارة عن بذرة داخل غشاء صلب، فعلى الايمان الديني ان يتجنب تقوقع وتحوصل العقيدة الكنسية. " ولكون الايمان الكنسي مجرد حامل الايمان الديني ، فهو عرضة للتغير ويجب ان يبقى منفتحا على التطهير والتنقية التدريجية الى ان يتفق ويتوافق مع الايمان الديني ، ولايمكن ان يكون ركنا من اركان الايمان نفسه“.
ان كابوتو في دعواه بان الدين هو بنية اساسية لكل تجربة بشرية وفي مناصرته " لتدين بلا دين" في "ايمان بلا ايمان"، انما يضرب العصب الكانطي الاساسي بالرغم من كون كابوتو اكثر خطورة وراديكالية في خطابه. ويتبع كابوتو دريدا في دعوته “لعصر تنوير جديد“، عصر تنوير مابعد نقد العقل المحض او “عصر متنور حول التنوير القديم“. واجمالا، فهل مقولة الدين بلا دين تكرر فقط نفس التنوير القديم؟ فهل نزعة مابعد الحداثية معتمدة على هذا الايحاء الحديث، ام هل يوجد فرق واختلاف كبير بين كابوتو ودريدا من جهة وبين اسبينوزا وكانط من جهة اخرى؟
هبة الدين
يبدو دريدا ، في مناحي عديدة، مرددا صدى كانط اذ هو يستعرض افكاره عن هبة الموت، رغم انه يضفي تعقيدا على الاخلاق الكانطية العامة مستخدما افكار كيركجرد. وكما راينا، فكانط يعارض السريه بالحاحه على العلنية- فالتنوير يعتمد الاستعمال العام للعقل الفلسفي. من الناحية الاخرى، يبدو ان التفكيكية ونزعة مابعد الحداثية مسحورة ومفتونة بالاسرار والسرية، وعلى وجه الخصوص تبدو لغتها التنظيرية احيانا، خاصة جدا وغامضة ومنفلتة . يصغي دريدا لما هو مخبوء ومثير للتشويش ضمن الخطاب، ويؤكد ان الاسرار غير مكشوفة للعامة . وفي الوقت نفسه ، فالسرية المطلقة في قلب اللغة والفكر انما هي عبارة عن بنية شكلية وترانستاندلية للعقل، اكثر منها احتفاء وتمجيدا لللاعقلانية والشعائر الباطنية، وهو مايعلنه وبوضوح كتاب هبة الموت. ويلتصق هذا الغموض الذي هو جوهر العقل بصورة لازمة في بنية العقل ذاته وبالتالي هو الذي يجعل العقلانية والخطاب العام العلني ممكنا. هذا الغموض هو اساسا ديني مثلما يؤكد دريدا في هبة الموت ويفسر كابوتو هذا السر بانه سر الايمان.
مع ان دريدا وكابوتو ينقدون الحاح كانط على العلنية وكشف الاسرار، الا انهم مع ذلك يتبعون كانط من حيث محاولة استعراض وتبيان السر الضروري، وهو السر بعدم وجود سر(Secret). وهذا العنصر التنويري النقدي مهم عند كل من دريدا وكابوتو اللذين لايحتفلون او يبقون اسرار معينة مطلقة لكنهم يصغون للسرية المطلقة في اللغة والعقل . يؤكد دريدا في كتابه ميل نحو السر(A Taste for the Secret)، على الضد من كانط، ، ان الفضاء السياسي اوالعام "الذي لايفسح مجالا للسر"، والذي هو ايضا منتدى داخلي يقاوم الانتماء،" انما هو علامة واضحة على اتصاف الدمقراطية بالشمولية (totalitarianization)." في الوقت نفسه،فالسر الذي يجب ان يقره المحيط العلني ويفسح المجال له ليس سرا(Secret) مطلقا، مع انه يبرر امكانية كتمان اسرار معينة خاصة. يبين دريدا هذا الامر بطريقة صورية:
واذا توجب علي ان اشارك بشي ما ، ان اتواصل ،ان اكتب واعبر صوريا ، ان اعرض موضوعة ما ، فهذا انما يعني وجود شيء ما تتسم موضوعته بانها غيرمعروفة ، وانه غير ممكن التعبير عنه صوريا ولايمكن المشاركة به. وان هذا "الشئ" انما هو" سر مطلق".
والسر المطلق ليس بسر (Secret) لانه" اما مستقر في فضاء لايوجد فيه سر او ان الاسرار قابلة للتداول والتناقل والتغاير بشانها"، اضف لذلك ، اشتمال البنية العامة للسر على العالم المعاصر والموجودة فيه ضمنيا " شي ما فريد يحدث اليوم،" ولاجل فهم " ماهو اصلي في وضعنا التاريخي، فالدين ليس اسوء الطرق الموجهه والهادية ." يظل دريدا متشككا ومتناقضا كثيرا حول مضامين هذا التدين المحتوم ضمن الخطاب النظري وفي مقالته عن الايمان والمعرفة يستكشف بعض التداخلات بين التقنيات المعاصرة وبين الاصوليات الدينية. يبدو كابوتو اقل ترددا حول تاكيد هذا الايمان وعلاقته الجوهرية بالامل والعدالة. وبتعقب وتتبع كيفية تفصيل وتوضيح كابوتو لفكر دريدا ومضامينه الدينية، نرى رجوع الموقف الكانطي لكن بصورة مغايرة لان الباطن الذي يتجه نحو السرية والذي يتبع كتابات لفيناس الاخلاقية، يصبح اساس المشاركة العلنية العامة. السر (ضروري لكن صوري) هو عدم وجود سر Secret (مضمون مطلق، لغز) لكن هذه السرية التي هي عبارة نوعا من الايمان في قلب العقل تنفتح على المشاغل العامة والسياسية للعدل والعلاقات مع المشاغل الاخرى الملموسة والاخلاقية في العالم.
وبالعودة لنص هبة الموت، يبدء دريدا نقاشه مع الفيلسوف الشيكي جان باتوكا بالتمييز بين نوعين من السرية هما الطقوس الماجنة والطقوس الاخلاقية. فوفقا لباتوكا، يكتب دريدا، " بالمعنى الدقيق للكلمة يظهر الدين حالما يكون سر المقدس ، سواء كان لغز طقوس ماجنة ام لغز شيطاني ، ان لم يتلاشى ، قد اندمج في الاقل ، بمحيط المسؤولية وخضع لها في النهاية."لذلك فالدين عند باتوكا مرتبط بانهاء والغاء السرية المطلقة لكن دريدا يؤكد ان الخطى باتجاه ربط الدين بالمسؤولية هو نوع من السرية ايضا. وهذه السرية تاريخية وان" تاريخ المسؤولية مرتبط بتاريخ الدين."التاريخ (او التواريخ) بمعنى اخر هي تواريخ للسرية او في الاقل تواريخ التباينات البديلة للسرية. يميز باتوكا بين الافلاطونية وبين المسيحية بربط الافلاطونية بتاريخ طقوس(ماجنة) مطلقة للسرية بينما تؤشرالمسيحية الانقطاع مع هذا النوع من اللغز والغموض عن طريق دمج السر وادخاله بمنظومة معتقداتها باعتباره تضحية اخلاقية. في بداية نشاة المسيحية، فهذه الصيرورة- صيرورة تاريخية للبشرية، تبدو انها مشدودة شدا وثيقا بالمسيحي القويم حتى لو كان من من سر اخر او بتعبير ادق من لغز اخر، هو اللغز المرعب(mysterium tremendum) ، اي خوف وخشية وارتجاف المسيحي في تجربة هبة التضحية.
وكما يوضح دريدا ، فلاجل قهر السر(Secret) " فالصحوة من اللغز الشيطاني تتضمن الوصول لتحقيق امكانية السر،اي كتمان سر." وفي الوقت نفسه فلا يتلاشى اللغز والغموض بقدر مايتم احتواءه داخليا. ان التضحية الوحشية بالاخر (حيوان او انسان) اثناء الطقس السري لعبادة سرية غامضة ما تصبح هي التضحية الذاتية الاخلاقية لرغبات الفرد الخاصة بل وحتى اكثر من هذا، التضحية بمسؤولية تضحية النفس للاخر، اي هبة الموت. وهذا هو نوع جديد شاذ ومخيف من الغموض او السرية والتي تمثل نوعا معينا من المسؤولية الاخلاقية عن طريق استمرار اخفاء السر الشيطاني داخل ذاته نفسها بطريقة اكثر دقة ومهارة وخفاء.
وبهذا فدريدا يفسر باتوكا وفي الوقت نفسه يعقد فكره، واحاول ان اشير لوجود معنى ومنطق معين والذي نجد فيه ان تاريخ الدين يصبح سرا في الفكر الغربي اثناء فترة الحداثة، لانه وحسبما يرى كل من كانط وسبينوزا فالدين يترسخ وتتجذر اهميته باعتباره مسؤولية اخلاقية وبالتالي تم تشريع حدود العقل الاخلاقي لتغطي (تخفي) ولتحتوي السر الديني الذي يقلق وجوده الداخلي. وبوضع التطور التاريخي لمسؤولية اخلاقية ما والتي هي دينية بدون ان تكون متدينة ضمن الحداثة الاوربية، فانني بذلك اقوم بتحديد دعوى باتوكا فضلا عن التشكيك بها والتي لم يستطع دريدا عرضها ولا نقضها بوضوح، وهي ان فجر المسيحية يؤشر تاريخا جديدا للسرية وعلى نحو جذري خاصة من حيث علاقته باليهودية. من الواضح ان باتوكا يقارن السرية المسيحية والاغريقية ولايربط تاريخ السرية الاسرائيلية-اليهودية بسرية المسيحية. على ان فهم كيفية ارساء سبينوزا، المنحدر من (Marranos) يهودية، اساس المجتمع اللاديني (والذي فيه بامكان الفرد ان يظل متدينا) بامكان المرء ان يرى كيف ان تقاطعات الاديان بصورة غير واضحة وغيرمحسومة مكنت من تشويش الحدود بين المسيحية وبين اليهودية وكيف ان كلتاهما مسؤولتين عن عقلانية التنوير الاوربي.
يلمح دريدا ،حين يستخدم مصطلح مارانو(Marrano) في نهاية كتابه ( Aporias) المكتوب والمنشور بعد كتابه هبة الموت ، الى ارتباط خفي بسبينوزا دون ذكر اسمه. والكتاب عبارة عن تاملات حول الموت وعن العزاء البدائي، حيث تنشأ صلة بالموت او تتشكل بفعل " مطلق ينتظر احدهما الاخر،" غير ان الموت ذاته ليس مطلقا او انقطاع صرف عن الحياة نفسها لكنه في الاقل مندمج جزئيا في العلاقة. الموت معضلة، المعضلة المطلقة، غير ان دريدا يقول ان "المعضلة المطلقة هي استحالة المعضلة على هذا النحو،" يعني باعتبارها انقطاع محض او مطلق . فنحن "ملوثون" بعلاقتنا بالموت وكوننا ايضا غير صريحين بفعل علاقتنا مع الاخرين(نقد لاطروحة هيدجر عن اصالة الفرد الحاسم في وجوده نحو الموت والتي عرضها في كتابه الوجود والزمن).
وفي الصفحة الاخيرة بعد اشارته لكتاب الوجود والزمن ولتاريخ ولذاكرة الموت في اوروبا الغربية، يشير دريدا "عصر المفارقة الزمنية للمارانو Marrano " فيقول دريدا :
لنسمي رمزيا مارانو اي واحد يبقى امينا لسر لم يختاره، في نفس المكان حيث يعيش، في بيت الساكن او الشاغل، في بيت القادم الاول او القادم الثاني ، في نفس المكان حيث يظل دون ان يقول كلا ولكن بدون التعريف بنفسه بانه ينتمي اليه. في الليلة غير المتنازع عليها حيث الغياب المتعجل الشديد لاي شاهد تاريخي يحفظه ويحميه، في الثقافة السائدة التي لديها تقويم ، هذا السر يخفي المارانو حتى قبل ان يخفيه المارانو نفسه. اليس ممكنا الاعتقاد ان مثل هذا السر يتجنب ويتحاشى التاريخ والعمر والشيخوخة؟
يعمم دريدا وبصورة تصورية سرا موجودا في قلب الزمن والتاريخ لكي يدعي اننا كلنا مارانو،" مارانو على اية حال سواء رغبنا ام لم نرغب سواء علمنا ام لم نعلم ." وبلفت النظر نحو سبينوزا والسياق التاريخي المعين للمارانو، سارد على تعميمه لهذا المصطلح غير انني فاعل هذا لغرض تعميم سياق سبينوزا بخصوص ظهور ونشوء فكرة دين بلا تدين خارجيا باتجاه الحداثية ومابعد الحداثية.
اذن فتاريخ عقل التنوير مشدود لتاريخ المسؤولية الاخلاقية التي هي بدورها مرتبطة(في الاقل) بارث كل من الافلاطونية، والمسيحية واليهودية. تنطوي المسؤولية الاخلاقية على جوهر ديني اساسي وموروث والذي نراه بوضوح في الطقوس الماجنة برجوع وظهور سرية شيطانية، وهي عودة يمكن ربطها بفكرة فرويد بعودة المكبوت. فاذا تنكرنا للتدين في قلب العقل فسيظهر التدين منفجرا وبسهوله عبر طرق وحشية قاسية وعنيفة. يؤكد باتوكا وفقا لدريدا بان " الحضارة التقنية هي بحالة انحطاط وتدهور ونقصان" ويجيب بان العقل هو" عودة المجون او الشيطانية." ويتبع دريدا باتوكا في تعقب هذه العوده الى الضجر ويرى ان التكنولوجيا الالية والضجر مرتبطان على نحو ما. وبقراءة عرض كتاب كابوتو (صلوات دريدا ودموعه )، والاصغاء لوصف دريدا للفزع في كتابه هبة الموت ، يمكن للمرء ان يعتقد ان المسؤولية الاخلاقية تعتمد على الاعتراف والاقرار بالانفعالات والارتجاف ، بينما نجد ان كبت الانفعالات بفعل عقلانية مفرطة الجزم او انكار الانفعالات بنظام تقني ذاتي ، انما يهدد بالتسليم بالسر الشيطاني او تشجيع عودته، مستخدمين تعابير باتوكا.
ان جوهر السر المسيحي هو الفزع الغامض(mysterium tremendum) . يركز دريدا على الفزع وقد قرأ باتوكا تحت ضغط كتاب كيركجرد الخوف والارتجاف. يكمن الارتجاف في قلب المسؤولية الاخلاقية والتفكير الاخلاقي … ونحن نرتجف رغم السر المخيف (حتى لو كان مرغوبا). يوضح دريدا " ان انفعالات الهلع والخوف والقلق والفزع والرهبة مع اختلافها عن بعضها البعض الا انها جميعا تبدا بالارتجاف" ويضيف دريدا قائلا ان الذي احدث هذه المشاعر يستمر او يهدد بالاستمرار ليجعلنا نرتجف. غالبا لانعرف مايدهمنا ولا نرى اصله؛ لذلك يبقى سرا ولغزا. " الارتجاف هو فعل فيزياوي يسيطر على الجسم والروح، لكن " لايعرف المرء لماذا يرتجف ." يقارن دريدا اعراض الارتجاف باعراض ذرف الدموع التي تصبح جزء من عنوان واطروحة مهمة لعمل كابوتو. الارتجاف مثل البكاء يخص استجابة سببها غامض جدا ومع ذلك حميمي، " اقرب سبب لبدننا." يتحول دريدا من البدن منتقلا الى الله ويشير الى ان سبب الارتجاف في الفزع الغامض هو " هدية الحب اللامتناهي…. نحن نخشى ونرتجف امام السر المحال بلوغه لرب يقرر لنا مع اننا نبقى مسؤولين، يعني لنا حرية التقرير، والعمل و تبني حياتنا وموتنا."
بالطبع ان كثيرا من قراء كيركجرد قد تاثروا بقراءته لقصة ابراهيم للتضحية بابنه ليشهد على ايمانه الاستثنائي. يؤكد دريدا ان قصة ابراهيم تمثل ايضا اوج المسؤولية الاخلاقية فضلا عن تدميرها . فعند حد المسؤولية، تتكشف قوة وحدة السر الديني بكل فزعه وخوفه؛ ويعمم دريدا قصة ابراهيم وهبة الموت على كل فرد.
ان اي قرار مسؤول انما هو معضلة لانه يجب ان يعتمد على معرفة ما باعتبارها شرط ضروريا، لكن في الوقت نفسه لايجب ان يكون معتمدا على المعرفة العقلانية المنطقية، والا فهو ليس قرار اخلاقي بل انما هو عبارة عن توظيف طريقة منطقية. يبقي ابراهيم امر الرب للتضحية بابنه سرا وهو مايخالف وينتهك اخلاق كانط العامة: " بكتمان السر انما يخون ابراهيم الاخلاق." يستلزم واجب ابراهيم المطلق تجاه ربه التضحية بواجباته الاسرية والاجتماعية التي تتطلب منه ان يصارح زوجته وابنه حول مايريد فعله. دريدا يتبع كيركجرد الى حد مسالة الطبيعة الفضائحية وغير الاخلاقية ظاهريا للامر الالهي. فيقول،" ان القصة بلا شك مذلة يصعب تصديقها: اب مستعد لقتل ولده الاثير الذي لايمكن تعويضه، وذلك لان الاخر(Other) ، الاخر الكبير يسأله ويأمره بذلك بدون ادنى توضيح وتفسير. "
وعند هذا الحد يبتعد دريدا عن كيركجرد لغرض تعميم حالة ابراهيم على خلاف رغبة كيركجرد لتاكيد تفرد حالة ابراهيم وطبيعة ايمانه. " لكن اليس ذلك هو الامر الشائع جدا؟ " يكتب دريدا:
الواجب او المسؤولية تلزمني وتشدني بالاخر، للاخر باعتباره اخر، وتربطني في تفردي المطلق للاخر باعتباره اخر ومتفرد (رب ابراهيم معروف بانه واحد ومتميز فريد). حالما ادخل بعلاقة مع الاخر المطلق ، يدخل تفردي المطلق بعلاقة مع مطلقه على مستوى الالتزام والواجب…. ولكن مايربطني في تفردي بالتفرد المطلق للاخر، يدفعني حالا الى خطر التضحية المطلقة. ان خطر التضحية المطلقة هي تضحية كل فرد اخر فضلا عن تضحية اخر مطلق لصالح الاخر الذي تربطني به مسؤوليتي. يجعل دريدا الفرق بين الاخر (الفرد) والاخر (الرب) هي القضية. ودعواه، " كل (واحد) اخر هو كل اخر( تماما) “tout autre est tout autre," " تعني انني "لااستطيع ان البي دعوة ، طلب ، التزام او حتى حب الاخر دون ان اضحي باخر الاخر ، باخر الاخرين." اخيرا يؤكد دريدا بوضوح امكانية احلال و استبدال الاخر والرب:" كل (واحد) اخر هو الله، او الله هو كل اخر (تماما) "
هبة الموت هي هبة التضحية التي تساعد اتخاذ القرار المسؤول، قرار من اجل الاخر لكن تلك الهبة نفسها متناقضة لانها تتضمن بالضرورة تضحية الاخرين من اجل الاخر الذي انا مسؤول عنه. وهذه التضحية شكلية واساسية لبنية وعمل المسؤولية لكنها داخلة في كل قرار اتخده انا . التضحية هي تضحية دينية ، هي تضحية بالنفس لنفسي تجاه الاخر او من اجله لكنها ايضا في نفس الوقت هي تضحية كل اخر الذي هو ليس بهذا الاخر الفرد القريب في اللحظة الراهنة لاتخاذ القرار. يشهد المكون الديني للقرار الاخلاقي على دمار الاخلاق العامة العقلانية وكذلك انهيار الاختلاف الحديث بين الاخلاق وبين الدين. يدعي دريدا انه في حالة لفيناس، نجد موقف مشابه لموقف كيركجرد من حيث "ان لفيناس لم يعد قادرا للتفريق بين التغاير اللامحدود لله وبين تغاير كل فرد من البشر.فاخلاقياته هي دينية المحتوى." اذا كانت المسؤولية تجاه الاخر هي اساس الاخلاق فان تلاشي تفريق الله والاخر ، الله والجار، يسبب التعقيد والارباك المتبادل لعلم الاخلاق والدين.
حين يعجز اي خطاب اخلاقي عن ابعاد نفسه عن المفاهيم والتاثيرات الدينية ، انما ينقلب على نفسه ايضا : فالدين الذي يشغل نفسه اساسا بالاخر وبالقرار المسؤول انما هو دين بلا تدين، وسر بلا سر(Secret). وحسبما يقول دريدا، " يتوجب علينا التوقف عن التفكير بالله بكونه شخص ما ، موجود هناك، في السماء، ترانسندنت، والاكثر من هذا انه قادر، حتى اكثر من اي قمر يدور في الفضاء، على رؤية اخص اسرار اعماق الاماكن."من الناحية الاخرى، " يمكننا القول: الله هو اسم احتمالية وامكانية كتماني لسر مشهود ومرئي من الباطن ولكن ليس من الخارج. وما ان توجد بنية ضمير كهذه،….. ادعو نفسي الله—وهي عبارة يصعب تمييزها عن عبارة الله يدعوني، لانه على ذلك الشرط يمكنني ان ادعو نفسي او اكون انا مدعوا سرا. "
هنا نلحظ عودة كانط غير ان الاخلاق الكانطية تعاود ظهورها بصورة مختلفة عند دريدا (وكابوتو) لان دريدا يؤكد الحاجة لكل من السر المطلق والاشتراك العلني بالمسائل الاخلاقية والسياسية للعدالة والاخلاق، تماما بفعل الاشتراك المركز بهذه السرية الداخلية. وكما وضحها كابوتو، بصورة اقل غموضا،" المتدينون ، من عشاق المستحيل، الموجودون في الاحياء البائسة محاولين تغيير الاشياء، يقولون الحقيقة." ويفكك كابوتو التفريق الاقصى بين التعلق الوجداني بالله و التعلق الوجداني بالعدالة بنفس الطريقة التي يقلل بها دريدا من شان الفرق بين الاخر والاخر (الذي هو الله). اذا لم نفلح وبقوة في فصل الله عن الاخر، فلن نتمكن من فصل حب الله عن حب الاخرين لذلك فاي التزام نحو الله انما هو التزام نحو العدالة والعكس صحيح.
ان معنى الله ، وهو ليس مفصولا فصلا كاملا عن معنى الاخر، او معنى النفس، انما هو امر غير محسوم والذي يعني انه في النهاية سر." معنى الله داخل في هذه الحركات المتعددة للحب، لكن هذه الحركات تتميز بكونها وببساطة متعددة جدا ومتعددة التكافؤات ، محتومة جدا ولايمكن احتواءها بحيث يمكن تعريفها وتحديدها او تقديرها، " حسبما يقول كابوتو. وبالمقارنة، فانني اقترح بان حدود الحداثة ومابعد الحداثة هي ايضا " عديدة جدا ، ومتعددة التكافؤات جدا ، ومطلقة جدا، غير مقيدة جدا بحيث يصعب تعريفها وتحديدها او تقديرها،" ولذلك يبقى الحد سرا (ولكن ليس سرا Secret). يبالغ ارث الحداثة في التاكيد على مقولة " بلا تدين" ولكن نجد ان حركة احياءنا الما بعد الحداثي، دينيا كان ام سواه، يغرينا ان نولي اهمية اكبر " للدين" بينما لا نبالي بلا تدين ،الذي هو بالطبع يحتوي على مفهوم الدين و اللاتدين.
"ذلك هو تاريخ الله وتاريخ اسم الله باعتبارهما تاريخ للسرية ، وهو تاريخ يعتبر في الوقت نفسه سرا وبدون اية اسرار.ومثل هذا التاريخ هو ايضا اقتصاد." ومثل هذا التاريخ يستلزم لاهوتا لتوضيحه والتعمق فيه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.