مخطيء من يرى فيما نكتب غير إيقاظ العقول لترى أن ما ينشره الفكر الأصولي السلفي هو نصف الحقيقة ، فالشعر الذي كتبناه عن رموز الحنيفية قبل الإسلام لم يستطع أحد أن ينف صحته ، أما أن يقوم أحدهم بنشر نفي لأبيات نسبها غيرنا لامريء القيس فذلك لا علاقة له بنا ... و من المهم تبيان أن العقول قبل البعثة كانت مهيئة لما سيأتي ، فلا يمكن أن تخاطب أناسا بلغة لا يفهمونها و لا بمفاهيم لا يدركونها . أردنا أن نثبت أنهم كانوا يعرفون مفاهيم الثواب و العقاب و الجنة و النار و حتى قصص كثيرة وردت في القرآن ، هل يعني ذلك طعن في القرآن ؟ الآن تنتشر على السايبر معلومات عن معرفة البشرية بقصص المعراج و الطوفان و قصة ذو القرنين و أصحاب الكهف و إلقاء سيدنا إبراهيم عليه السلام في النار و كيف هي من قصص ابوكريفا و المشناة و الهاجادا و غيرها ، فهل يظن أحد أن ذلك سيصرف المؤمنين عن إيمانهم ؟ إن ما ظل محفورا منذ الطفولة يصعب زعزعته بكل الحجج . الأمر المهم هو تصحيح تلك المفاهيم التي تصور العرب و خاصة أهل مكة بأنهم كانوا جهلاء أغبياء لا يعرفون شيئا . الأصح أنهم دافعوا عما كانوا يرونه تهديدا لمصالحهم و زعزعة لما استقر في عقولهم من عقائد و انقلابا في طريقة حياتهم تتسبب فيه الدعوة الجديدة . كانوا يخافون فقدان الحرية الدينية التي تتيح لكل القبائل الحفاظ على مصالحها فتحج و تتعبد و تقدس آلهتها و تتاجر . أما اتهام أهل مكة للقرآن بأنه شعر أو سجع كسجع الكهان أو أنه أساطير ، فذلك قد رواه القرآن بأفصح و أدق ما يكون و لا حاجة لإيراده هنا . الراجح أن أهل مكة كانوا حسب تصوراتهم ، لا يرون إعجازا في القرآن فقد ظلوا على ذلك لمدة واحد و عشرون عاما تقريبا و لم يتنازلوا عن ذلك التصور إلا بعدما فتح السيف عقولهم كما قال شاعر النبي (ص) حسان بن ثابت : دعى المصطفى بمكة دهرا لم يُجب وقد لان منه جانب وخطاب فلما دعى والسيف صلت بكفه ...... له أسلموا واستسلموا وأنابوا أما الروايات المنسوبة لبعضهم عن القرآن غير ذلك التصور فهي موضع شك ، لأنها لو صحت لرأينا اتباعهم للدين الجديد . عند تجوالنا في عصر ما قبل النبوة وجدنا أن التصور السائد عن المسيحية في المناطق المعروفة لقريش هو وجهها النصراني الأبيوني (أشار أحد المعلقين للأريسية و المجال لا يتسع لتفصيل أمر اريوس الذي تعتبره الكنيسة حتى اليوم أسوا من الشيطان ، و الأبيونية ليست الأريوسية لكنها تلتقي معها في كثير من الأفكار) . يجدر بالذكر أن أفرادا من بني أسد بن عبد العزى كانوا قد تنصروا على ذلك التصور منهم عثمان بن الحويرث الذي بلغ مرتبة بطرك و قتيلة أو أم قتال (كاهنة) و هي أخت ورقة بن نوفل و هو أشهرهم و قد وصل مرتبة قس (قال النبي (ص) عنه: رأيت القس ورقة في الجنة عليه ثياب خضر ...سيرة ابن اسحاق 113 – دلائل النبوة للبيهقى 2/ 158 و غيره ) و هم بنو عمومة السيدة خديجة زوجة الرسول (ص) ، و تنسب السيرة لورقة المعرفة العميقة بالتوراة و الانجيل و لغة كل منهما ، حتى أنه ترجم إلى العربية أجزاء من التوراة و الانجيل ، و قد نسب بعض المؤرخين و الكتاب إليه و إلى بحيرى الراهب النسطوري تأثيرا على الرسول (ص) نذكر منهم في عصرنا الدكتور خليل عبد الكريم في كتابه (فترة التكوين في حياة الصادق الأمين) و الذي لا نتفق مع كثير مما ورد فيه ، ارتكز القائلون بذلك على قول منسوب للسيدة خديجة عندما سعت للزواج من النبي (ص) بأنها مأمورة بهذا الأمر فقد أورد ابن كثير في السيرة النبوية الجزء الأول : (قالت خديجة لمحمد قد أخبرني به ناصح غلامي و بحيرى أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين عاما) و في السيرة الحلبية الجزء الأول : (وذكر ابن دحية أيضاً أنه لما أخبرها بجبريل ولم تكن سمعت به قط ، كتبتْ (وفي رواية ركبتْ) إلى بحيرا الراهب فسألته عن جبريل ، فقال لها: قدوس قدوس يا سيدة نساء قريش، أنى لك بهذا الاسم ؟ فقالت: بعلي وابن عمي أخبرني بأنه يأتيه ، فقال: إنه السفير بين الله وبين أبنائه، وإن الشيطان لا يجترىء أن يتمثل به، ولا أن يتسمى باسمه. ...) [[ هذا الخبر يبدو إنه و أخبار أخرى قادت أحد الباحثين المعاصرين لإخراج بحث يدعي فيه أن بحيرى رحل إلى مكة من بصرى ربما لأسلوب المحاورة التي تصور الأمر بين شخصين متواجدين في مكان واحد و ليس عبر الرسائل]] ، و ما رواه البخاري عن أنه عندما توفي ورقة فتر الوحي ، و هي تلك الفترة التي انقطع فيها الوحي قرابة الثلاث سنوات و التي روى البخاري عنها في صحيحه ج 1 في حديث نزول الوحي (فرجع بها رسول اللّه (ص) يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد ( رضي اللّه عنها ) فقال : زمّلوني زمّلوني ، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة و أخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة : كلاّ و اللّه ما يخزيك اللّه أبداً إنّك لتصل الرحم ، و تحمل الكل و تكسب المعدوم ، و تقري الضيف ، و تعين على نوائب الحقّ ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عمّ خديجة ، و كان أُمرأً تنصّر في الجاهلية ، و كان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء اللّه أن يكتب ، و كان شيخاً كبيراً قدعمي ، فقالت له خديجة يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل اللّه على موسى ياليتني فيها جذعاً ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمخرجي هم ؟ قال : نعم ، لميأتِ رجل قطّ بمثل ما جئت به إلاّ عودي ، و إن يدركني يومك ، أنصرك نصراً مؤزّراً ثم لم ينشب ورقة أن توفّي و فتر الوحي.) أما موقع مركز الفتوى على الشبكة فيعلل فتور الوحي من خلال إجابته على سؤال عن موضوع آخر : السؤال : ما مدى صحة حديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم حاول الانتحار ؟ الإجابة : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما في قصة بدء الوحي وذهاب النبي صلى الله عليه وسلم مع خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل أن الوحي فتر مدة ثم تتابع، قال صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي: "بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (المدثر:1) إلى قوله: (والرجز فاهجر) فحمي الوحي وتتابع". وقال الزهري - كما في صحيح البخاري- : (وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنا غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك). قال الحافظ ابن حجر: "وهو من بلاغات الزهري وليس موصولاً" ... و قد ورد أيضا في مسند الإمام أحمد 26712 و أورده ابن كثير في السيرة النبوية الجزء الأول . انظر مركز الفتوى http://fatwa.islamweb.net/fatwa/inde...atwaId&Id=9240 ... نزلت في العام الأول من البعثة قبل فتور الوحي عشر سور مع اختلاف في ترتيبها ، على أصح الأقوال : العلق ، القلم ، المزمل ، المدثر ، الفاتحة ، المسد ، التكوير ، الأعلى ، الليل ، الفجر ، و كما نلاحظ أنها ذات آيات قصار (عدا آية سورة المزمل) و أنها تتناول جزاء المؤمنين و عقاب الكافرين في الآخرة و صور الثواب و العقاب في النار من الأنكال و الجحيم و نوع طعام أهل النار (طعام ذا غصة) مع استدعاء قصص السابقين ... انتهت مدة الفتور و عاد الوحي ليرد على مزاعم من قالوا إن الله قلى نبيه أي تركه و ذلك بما ورد في سورة الضحي ( و الضحي و الليل إذا سجى . ما ودعك ربك و ما قلى ... )... استبقنا تسلسل الأحداث لنروي قصة الوحي و سنعود لنواصل رواية المسكوت عنه في فترة ما قبل النبوة . سرحان ماجد [email protected]