احتفت مهرجانات انطلقت في الخرطوم بعيد الأم، وهذا شيئ محمود أن نخصص جانبا من وقتنا للوفاء بحق الأم والوقوف باحترام وتقدير أمام هذا الانسان الشامل الذي تمثله الأم والذي تفيض مظاهر حنانه على الجميع دون من ولا أذى، وكان مهما أن يتم وسط هذه الفرحة الالتفات للأمهات الثكالى في دار فور وجنوب كردفان وفي النيل الأزرق، بل في حواضرنا ذاتها، لتتسع مساحة الرؤية كي تنحسر وتتبدد أهوال الحرمان والحزن.. نعم كانت هناك فرصة لتركيز الضوء على أهمية وضع حد لهذا الهوان الذي تكابد فيه الامهات بأطفالهن الأمرين، فالأمهات والنساء عموما هم أكثر المتضررين من مظاهر الحروب، وكان يمكن اغتنام المناسبة للتذكير بأهمية حل كل مشاكل السودان حتى تنعم الأم بالسلام وكذلك كل السودان، فليست هناك فقط مشكلة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق لكن هناك مشاكل متفاقمة في كل أنحاء السودان.. وتبرز دارفور في واجهة الأحداث في أيامنا هذه مع اتساع رقعة القتال، وبتنا نشاهد ذات الأرقام الفلكية التي صاحبت أيام القتال الأولى في مطلع الألفية الثانية، فهناك عشرات الآلاف من النازحين وهناك أيضا مئات القتلى، وهناك على سبيل المثال الظلام الذي يلف مدينة كبرى مثل نيالا بسبب انعدام الوقود ( 100 جنية لصفيحة الجازولين قبل أيام) وتقلص المساحات الزراعية بأكثر من النصف وتأجيل امتحانات الأساس لأن الظروف الأمنية لا تسمح بذلك.. وهكذا.. وهناك ما هو مهم أيضا فيما يتصل بصورة ميزان القوى في الساحة، مع تعاظم قوة المليشيات التي كانت صغيرة في عامي 2003م و 2004م، بل هي تحظى حكوميا بقدر من ( الشرعية) نقلها من مجرد مليشيات غير منظمة إلى قوى يحسب لها ألف حساب، وقد تزينت هذه المرة بألقاب وأسماء جديدة حيث تحول مصطلح الجنجويد إلى " قوة التدخل السريع" وباتت هذه المليشيات أكثر قدرة على الحركة، وأكثر فتكا بالناس وأكثر انفلاتا من ذي قبل، بينما صار مسرح عملياتها يتجاوز مجرد دارفور إلى كردفان المجاورة.. وكررت في كردفان ذات العمليات الهمجية التي استهلت بها نشاطها الدموي في دارفور، واضطر والي شمال كردفان تحت ضغط الأهالي إلى ابعادها من حيث أتت، وعندما عادت إلى محضنها الأول بدت وكأنها خرجت من سلطة الجهة التي رعتها وحددت لها مهامها، فقد خرجت عن الطوق وباتت تتطلع إلى أهداف أخرى، كيف لا وهي تتمتع بكل هذه القوة والامكانيات السريعة للحركة وسلطات انتزعتها بنفسها.. هذا وغيره يفرض واقعا مريرا يجعل الخوف ليس فقط من فقدان دارفور بل من تشتت السودان بأكمله، بينما تجمع القوى السياسية المعارضة على أهمية وضع كل المشاكل التي يعاني منها الوطن على طاولة واحدة فيما يعرف بالحل الشامل، وأصبح المتفق عليه تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية.. ليس فقط مشكلة دارفور، وإنما مشكلة السودان في دارفور، وأيضا مشكلة السودان في النيل الأزرق، ومشكلة السودان في جنوب كردفان، هذا عوضا عن المشاكل العامة المترتبة على انعدام الحريات وغياب الشفافية الأمر الذي اطلق وبصورة واسعة كل أنواع التفلت، بينما باتت أفاعي الفساد وملامح التفكك تزحف على طول وعرض الخارطة السودانية.. ولا يبدو أن أهل النظام في عجلة من أمرهم بينما تطول قوائم الموتى والنازحين والمشردين، بل هم لا يستسيغون مسألة الحل الشامل هذه، بينما ينتظر الجميع نتائج لقاءات الحوار، وتعجز الأطراف المعنية بالحوار عن اللحاق سريعا للحيلولة دون الأهوال التي تحدق هول بالسودان و تهدد بتفككه، خصوصا وأننا أمام مشهد اقتصادي بائس يزيد من بؤسه ضعف التواصل مع الخارج اقتصاديا وسياسيا، وهو أمر كان يفترض أن يدفع أهل النظام من جانب، والمعارضة من خلال ضغط لا يفتر، إلى التعجيل بطرح المشاكل والعمل على تسويتها، وأن تسعى الحكومة مباشرة إلى اطلاق الحريات بدلا من الوعود بأن ذلك سيحدث الأسبوع المقبل أو الذي بعده، فليس هناك مجال للحوار بينما الأفواه مكممة وبينما يتم مصادرة الحق في التعبير بصورة يومية، وكل ذلك لن يفضي إلى الحوار المنشود بل يزيد من تفاقم الأوضاع الصعبة.. فانعدام الحريات يعني أيضا حجب الضوء عن المصاعب الحقيقية، كما يؤدي إلى غياب الوعي جماهيريا بالخسائر الفادحة التي يتكبدها الوطن بسبب التعتيم، وعزل أجزاء الوطن عن بعضها البعض من خلال تغييب الوعي العام عما يحدث في الأطراف من فظائع.. عبد الرحمن زروق [email protected]