1- بدأ المتحري متعجلاً متأففاً, بوجهٍ جامد خال من المشاعر، وعينان مظلمتان باردتان, وأسئلة تدل على أنه مقتنع تماماً بأننا ارتكبنا جريمة ما, وأنه ينوي وضعنا في قائمة من قوائم الجرائم المعتادة, سرقة, سُكر, نشل, أي شيء. إلا أننا استمتنا في الدفاع عن أنفسنا: - لقيتو معانا مسروقات ؟ ليه ما حولتونا المستشفى للكشف علينا لو سكرانين ولاّ لا؟ بعدين، أي زول يدخل المدينة بالليل تشتبهو فيهو؟ لم نترك له مجالاً لاستثارتنا، بالرغم من كلماته المستفزة التي يرميها في وجوهنا بين حينٍ وآخر: - انتو الظاهر عليكم مجرمين محترفين تجاهلنا ملاحظته. - يعني عاوزين تقنعوني إنو قبضوكم ساكت كده - لم نرد عليه. - شكلكم ده شكل نشالين رددنا عليه بالصمت - مدرسين ؟ بالله دي هيئة مدرسين؟ في النهاية يبدو أنه وجد فينا خصماً عنيدا لا يلين, إذ وضع قلمه، واتكأ بمرفقيه على الطاولة، ومد عنقه نحونا قائلا: - عندكم أي حاجة تثبت كلامكم ده ؟ أجبناه بالإيجاب, ونبهناه إلى أننا ذكرنا له منذ البداية ماهي مهنتنا, والأمر لا يحتاج إلى كبير عناء, فما عليه إلا أن يرسل في طلب أي موظف من إدارتنا والتي هي على مرمى حجر من المركز, ويسأله عنا, وإلى أن يفعل ذلك فإننا لن نرد على أي سؤال منه. على مضض, بدأ يكتب شيئاً على ورقة أمامه، ثم نادى أحد الجنود، وسلمه الورقة ليذهب بها إلى الإدارة ويأتيه بالرد سريعا, لم يستغرق ذلك زمناً, إذ عاد الجندي وبصحبته موظف من الإدارة, ما أن دخل، حتى تبادلنا الأحضان والتحايا. وهو في دهشة من أمره, سألنا عن أسباب وجودنا هنا, أحلناه إلى المتحرى الذي كان يتابع ما يجري أمامه بحيرة بالغة، حتى أنه حاول أن يبتسم في وجوهنا: حين سأله الموظف عن التهمة الموجهة لنا: - مافي حاجة، يبدو أنها حالة اشتباه لاغير, حصل خير قالها وهو يحاول إخفاء حرجه، بترتيب الأوراق والملفات على طاولته, ثم استأذن وخرج، ليعود برفقة الرقيب عثمان، الذي أبدى أسفه واعتذاره لما حدث، معللاً ذلك بأنهم يضعون الحذر فوق كل اعتبار. قبلنا اعتذاره، وأوضحنا له أننا نتقبل ما حدث بصدر رحب. بسرعة تم الإفراج عنا. قبل أن نغادر، مررنا على الزنزانة رقم خمسة لنبشر الزملاء بما حدث, ولكم أن تتصوروا فرحتهم وكأننا عشنا سويا سنين عدداً لا بعض ليلة0 خرجنا، وأنا أظن ظناً يرقى إلى مرتبة اليقين, أن هذا آخر عهدي بهم. 2- كان الخريف ُطويلاً تلك السنة. يبرقُ و يرعدُ و يزبد طوال الليل، في الصباح يتدافع الناس داخل مطاعم الفول فلا تجد موطئٌ لقدمك. ذات صباح من تلك السنة. دخلت مطعماً شهيراً في إحدى أزقة السوق, وبعد جهد استطعت أن أظفر بوجبتي. لحظة دفع الحساب، كاد الجنون يُذْهِبُ عقلي, أدخل يدي في جيبي، وأخرجها فارغة, أعاود الكرّة، فلا أجد سوى خرق كبير أسفل جيب جلبابي, ولا أثر لمحفظة نقودي. - اتنشلت ؟ سألني صاحب المطعم، الذي طال وقوفي أمام طاولته, وأنا أرتجف غضباً وحسرة. أجبته بنظرة منكسرة أسيفه, ولولا أنه يعرفني لكان له معي حديث آخر: - الله يعوضك يا أستاذ، أترك الحساب علينا هذه المرة خرجت وأنا أحس بالعرق البارد يبلل جبيني، ويسيل على عنقي من الخلف، حتى أسفل ظهري. اليوم التالي, وأنا جالس بمكتبي, أضع قائمة بالذين سألجأ إليهم لإعانتي, نبهني ساعي المكتب، لرجل يقف بانتظاري خارج المدرسة, سألت الساعي لماذا لم يدخل, فأفادني بأن الرجل يبدو متعجلا. حسبته أحد أصحاب الديون يريد ماله, هذا ما كنت أخشاه. وأنا في طريقي خارجاً, بدأت في استعراض الأعذار المناسبة لمواجهته, استبعدت أن يصدق حادثة النشل, واستبعدت عذرا آخر, وآخر، و...حسناً, لنترك الأعذار حسب مقتضيات الموقف. عند باب المدرسة، متكئاً على السور الخارجي, رأيته, وكانت المفاجأة: - سعيد؟ الشبح ؟ - اعتدل في وقفته وهو يبتسم بجزل: - أيوه الشبح شخصيا، كيف حالك يا أستاذ تبادلنا الأحضان, لم يتغير كثيرا, هو سعيد، بابتسامته والأسى الذي يغلف وجهه, والنظرة الحزينة التي تنام في عينيه. ضحك بخفة وهو يعلق على هيئتي، ويقارنها بما كنت عليه تلك الليلة, حين دعوته للدخول معي، تعلل بمشاغله: - ما انت عارف يا أستاذ في لمحة سريعة, وبعد سؤال مني, أفادني بأخبار بقية زملاء الزنزانة. إسماعيل هاجر إلى الخرطوم، حيث مجال الرزق أوسع حسب قوله, حسن وأحمد في السجن, الأول تسبب في عاهة مستديمة لأحدهم, والثاني أوقعت به جريمة الأول, إذ كانا يعملان سوياً تلك الليلة. الزعيم مازال يمارس نشاطه مع عصابته. - أما أنا قالها سعيد باستحياء: - بديت أعمل مدرسة خاصة لتعليم فنون النشل, عشان كده جيتك قاطعته ضاحكاً: - ايه ؟ عاوز تشغلني في مدرستك؟ دون أن يرد على مزحتي تلك, أدخل يده في جيب جلبابه، وأخرج محفظة ناولني إياها. محفظتي بعينها, هي, بلونها الذي أحالت الأيام سواده، الذي كان لامعاً يوما ما، إلى خليط من الألوان, وجلدها الذي تشقق بفعل الزمن, ياللمفاجأة : - دي لميت فيها وين يا سعيد ؟ سألت وأنا أتفحص ما بداخلها. - سلمني ليها واحد من تلاميذي، الظاهر هو النشلك، لما فتحتها لقيت بطاقتك, اتأسفت, سألت عليك، دلوني على مكانك ثم سألني ليطمئن: - كل شيء تمام ؟ أجبته بهزة من رأسي, لم يترك لي مجالا لأسترسل معه في الحديث, ودعني ومضى. وقفت أتابعه بنظراتي, حين وصل إلى زاوية السور, التفت نحوي, ابتسم, كور قبضته ورفع إبهامه لأعلى, أشار به ناحيتي, ثم غيبه المنعطف0 انتهى الطيب محمود النور [email protected]