أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم ( مريم يحي وحكم الردة ) مقدمة : مريم يحي إبراهيم مسيحية من والدتها , وليس من أبيها المسلم , الذي لم تره كثيرا في طفلتها , فنشأت على مبادئ الأرثوذكسية المسيحية التي استقتها من أم تقية تراعي شئون دينها , وتتبع نهجه , وتعلمه تقليدا وتوريثا دون وعي لأنجالها , وهي تنشد السلامة , وصلاح الدنيا والآخرة . ولكن محكمة ( الردة ) تبحث عن ديانة الأب , ولا تعترف بغيرها , ضاربة عرض الحائط بديانة الأم التي وجدت الفرصة , وهي في البيت , لتعلم صغارها , دعاء يا أبانا الذي في السموات , ومن صفعك على خدك الأيسر فأدر له الأيمن . فحكمت على مريم يحي بالردة , وعقوبتها الشنق , لأنها لم تتأس بديانة أبيها الذي لم يؤثر عليها , ولم يرعاها , ولم يورثها شيئا من ديانة ربما هو نفسه مرتد عنها أو متجاهل لها أو لا مبال بتعاليمها لأي سبب من الأسباب . وكان حكم الردة غريبا , واتهام مريم به مريبا , لأنه اعتمد على زواجها من مسيحي فقط , على ديانة والدتها , وليس لأنها ألفت كتابا , أو شرحت مبادئ تدعو للردة أو أسست منتديا أو حزبا أو جماعة تنادي ( بالردة ) . أ-إسلامنا إسلام ( وراثة ) نرثه كما نرث مكونات وجداننا الأخرى , وكما نرث تاريخنا , وكما نرث الأرض التي نندلق فوقها , نرثه مثقلا بالتراكمات والتعبيرات التاريخية محميا بالسيف كأنه فكرة قاصرة , وليس حرا طليقا من السلطان والسلطة بحيث لم يعد أحد منا يعرف الإسلام الصحيح , وكلما حاولنا أن نعرفه , وجدنا أنفسنا على تخوم القاعدة وطالبان . ولكن عندما نرثه نرثه أحرارا حتى تأتي السلطة لتفرضه علينا من جديد , أو لتصادره منا بحجج الفقهاء وسلطات المحاكم , أو لتسألنا عن الأب أين كان ؟ والأم أين جاءها المخاض ؟ كما يحدث مع مريم يحي التي تحاول المحاكم أن تفرض عليها دينا لا تعرفه , برغم حرية ميراثها إلى أن بلغت السابعة والعشرين من العمر ,وتحاول أن تفرض عليها جريمة من أغرب جرائم العصر لأنها لا تعاقبها هي وحسب , وإنما جنينا في بطنها , وأخر يرضع في حجرها , وزوجا مكلوما ينتظر عودتها , والأغرب أن الردة المتهمة بها توجد في قانون ( جنائي ) وضعي , والردة ليست جرحا أو أذى جسيما أو قرضا ضائعا أو قتلا عمدا أو خطأ , إنما هي جريمة وهمية في بلاد الحرية فيها ضلع من أضلاع مملكة الأوهام والأساطير . ب-ردة مريم مفروضة عليها من السادة الفقهاء , ومحاكم التفتيش , لأنها مبنية على زواج بالتراضي تكلل بالإنجاب ويسوده السلام والانسجام الروحيين . وهذا تماما كأن نختلق جريمة قتل من رجل يعلن أنه حي يرزق , أو قتل امرأة تقول : أبحثوا عن القتلى بعيدا عن بيتي , الردة جريمة هلامية تبحث عن ضحاياها بين الخيرين والأفاضل , وهي جريمة ذهبت بزمنها , ولم يعد لأحد , ولا دين , من حاجة بها أو إليها . بل لم يخطر ببال مريم يحي , وببال كل فاضل من الناس , حين تزوجت من ترضاه هي , ولا يرضاه غيرها حقد وغلا , أنها ستستيقظ يوما في بيت الزوجية , لتجد نفسها زوجة من جهة , ومرتدة من الجهة الأخرى , وأن هذه الردة تتدخل في صميم أمومتها , وسعادتها الزوجية , بل تعتمد على كل هذا لتعلن أنها مجرمة تستحق الشنق والجلد , الشنق لأن زواجها لم يكن في ( محله ) , وممن لا يرضاه عبد الحي يوسف ( خاطبة العصر الحديث ) وعصام البشير وغيرهم الذين يحددون مواصفات الزوج حسب الطلب , وربما فيما بعد قدراته التناسلية , والجلد لأن سعادتها المشروعة تنقلب فجأة بعد الحمل بطفلين إلى الزنا , والمرأة لم تتحدث عن فكرة واحدة في الإسلام أو تدعو لإلحاد , فالإلحاد حسب ما يريد الفقهاء ليس في الفكر مع أنهم أعدموا الأستاذ محمودا بتهمة الهرطقة , ولكنهم اليوم فإنهم يرون الإلحاد في مكان آخر غير الفكر , في مكان يرونه قريبا , في ( غرفة النوم ) . ت-الحقيقة كلنا نعيش في حالة ( ردة ) شاملة , لأننا لا نعرف الإسلام جيدا , ولأننا اختلفنا حوله , ولأننا أسقطنا حياتنا وتجاربنا منه , ولأننا أعلينا من شأن الكتب المحفوظة , وأسقطنا من شأن تفكيرنا الخاص , ولأن الحرام وحده من يفتح لنا أبواب العالم الآخر , أسقطنا العصور التي نعيش فيها , ولم تستطع أن نخرق الزمن لنعيش في العصور التي نتمناها ونتخيلها , الوحي صار نقيضا للعقل , والعقل صار متهما دائما بالردة حتى لو كان المتهم في غرفة نوم . الدين الذي لا يرتد منه الناس ليس بدين , وكل المؤمنين الحقيقيين يرتدون في مرحلة من مراحل حياتهم , وهذه قصة شيخ وقور عاش عمره كله عابدا متبتلا قريبا من الله وهو بالطبع لا يراه , ولا يطمع في رؤيته , وفي يوم جمعة دعاه بعض أغنياء المدينة , فدخل ديوانهم الواسع ليتوسط بعض أهل البيت في مائدة ضخمة لا مثيل لها , وبعد أن تغدى ذاك الغداء المشهود الذي لامس ملكوت الله , وشرب أنواعا من العصائر لم يشربها من قبل , صفت أمامه أكواب من قوارير , وجاءت صينية لامعة مصفوفة بصحون الفاكهة من عنب من كل نوع شديد الحلاوة وموز أصفر كبير الحجم وشرائح التفاح والبرتقال والمانجو وشرائح الشمام والبطيخ البارد وأصناف أخرى لا يعرفها أحد , فأكل الشيخ من كل صنف ما سولت له نفسه الأمارة بالسوء , حتى شبع , ثم شرب من عصير كوكتيل من جك صيني يقطر نداه ثم صار يتكرع بصوت عال ويقول بصوت هامس حتى لا يسمعه غير ربه : - أتوجد جنة غير هذه ؟ ج-ليس الدين ( فريق ) كرة يسجل هذا ويمنع ذاك , وليس هو جواز سفر يعطى ويمنع , إنه إسلام الذين ولدوا ووجدوه أمامهم دون اختيار منهم , الدين الذي خرج مع الناس من الأرحام , فليس بسهولة يمكن الردة عنه , الإسلام المختلط بالوعي وليس المفروض عليك ( بالفتوحات ) . من منا ذهب إلى المسجد ليعلن إسلامه ؟ فكيف أعلن ردتي ولمن ؟ ح-من المشاكل التي أتت بها ( الشريعة ) , وهي قوانين وضعية ضيقت من سعة الإسلام, ووظفته للجماعات , أنها وسعت من دائرة الحرام , وبذلك احتاج الإسلام إلى سلطان وسيف , وبهذا أصبح المسلمين مطاردين في أرضهم ودينهم . وأدخلت سلوكيات كثيرة طبيعية في عداد الجرائم , ومنها جريمة الردة التي عفا عليها الزمن منذ أن كان المسلمون أقلية يتلفتون خوف القتل , فالردة , وهي التحول من دين إلى دين أو التحول من الإسلام إلى المسيحية , كانت ممنوعة ومحرمة بشدة في عهد المسلمين الأوائل لأن الذين دخلوا الإسلام كانوا راشدين وبالغين ومن أصحاب عقائد أخرى , ودخلوه إما خوفا أو طمعا , أما من دخلوه إيمانا واحتسابا , فلا تعنيهم الردة في قليل أو كثير , وأما من جاءوا بعدهم من أصحاب الإسلام الوراثي فأيضا لا شأن لهم بالردة كحد ولا الردة كتهمة بعدما شاع الإسلام وانتشر وذاع في أكثر من ألف سنة , أما الذين دخلوه بالدعوة خائفين أو طامعين فإنهم حينما كانوا يغيرون إسلامهم , إنما يفعلون ذلك لأسباب سياسية , أو لمكيدة , أو لتخذيل بل فرضت ( الردة ) كحد حتى يمتنع أمثال هؤلاء من الدخول في الإسلام حتى لا يخذلون في اللحظة التي يكون فيها معتمدا عليهم وملتفتا إليهم وحتى لا يصعد أمثال هؤلاء إلى مراكز التأثير والقيادة والسلطة ولم يصنع هذا القانون لمثل ذاك الشيخ العابد الذي كابد الشظف ورجفة الجوع ولا لأمثال مريم يحي إبراهيم , كان الإسلام مازال ضعيفا , وعدد الصحابة والأتباع قليلا , وكان الإسلام يحتاج أكثر ما يحتاج للصادقين والمؤمنين الحق , فإذا دخله بعض الضعفاء في بعض فترات التاريخ خوفا , أو طمعا , ورأوا الصادقين , وتمرسوا معهم على الدين صاروا مثلهم وانتفت عنهم الحاجة إلى الردة , وكان الخروج من الإسلام من جهة أخرى بعد قوته في المدينة خطرا جدا لأن الإسلام كان على الدوام في الخنادق وكانوا المسلمون ينامون ويستيقظون وهم بالسيوف ويعيشون خوفا أن يتخطفهم الناس , فلذلك كان الخروج من الإسلام يعني أن ( المرتد ) قد اتخذ موقفا عسكريا ومقاتلا أكثر منه موقفا دينيا أو فكريا لأن الإسلام ألأول تحول عمليا من الدين إلى السياسة وتحول من الدعوة بالحسنى مجبرا إلى القتال العسكري , وهذا ما يفسر سكوت الوحي والتجديد الديني لسنوات أثناء القتال , وتعادل الردة بثوبها القديم عندنا الآن الهروب من القتال في الجيش أو الهروب حين الزحف أو الخيانة العظمى أو تسليم الأعداء معلومات مهمة كما سلم بعض أعضاء الإخوان المسلمين معلومات ساعدت على ضرب مصنع الشفاء للأدوية ومصنع اليرموك للأسلحة في الخرطوم . فهل كانت مريم يحي إبراهيم دخلت الإسلام خوفا أو طمعا ؟ وهل اتخذت موقفا عسكريا ومقاتلا من الإسلام ؟ وهل أفشت أسرار الدولة ؟ خاتمة : إسلام الأب أو الأم ليس دليلا على إسلام ( الأبناء ) لأن كل مولود يولد على الفطرة وهي ( الحرية ) , إذن الدين بالوراثة هو دين الحرية ولن يصمد مثل هذا الدين وهو الغالب الآن إلا في مجتمع ديمقراطي . [email protected]