بابكر محمود النور – الرحيل بصمت 4-6 1- فترة دراسة بابكر بجامعة موسكو، تميزت بالكثير من الحراك الثقافي، والاحتكاك بالعديد من المبدعين السودانيين والعرب، وهذا هو المناخ الذي يحبه ويعشقه. بابكر يعرف تماما كيف يقرأ، منذ صغره كان أسلوبه في القراءة فريداً، فهو يقرأ صفحة من كتاب أو صفحتان، ثم يضع الكتاب جانباً، ويغمض عينيه، يحسبه الرائي نائماً، وما هو بالنائم، إنما هي لحظة استطعام، و تفكير، وتمحيص، وتحليل لما قرأ، يعود بعدها لمواصلة القراءة، وهكذا. كتب الدكتور أحمد الامين هارون عن بابكر وأيام الدراسة بجامعة موسكو فقال : ( تلك الأمسيات الموسكوفية، كانت من أجمل الأمسيات الأخوية، وستعلق بذاكرتي حتي يريد الله أمراً كان مقضياً. كان بابكر يضحك من قلبه. كان "ونّاساً" بلا مثيل. رغماً عن قلة تلك الأمسيات، لكن حضوره الأخاذ وقفشاته لم تبرح الذاكرة...هناك من الأشخاص من تقضي معه يوماً واحداً ويظل ذلك اليوم محفوراً في الذاكرة.. وهناك من يعيش معك السنوات...ولكن لاتتذكر منها الشئ البته...حضور باهت...وكلام لاقيمة له... جامعة موسكو التي ارتادها بابكر، هي أعظم جامعة في الاتحاد السوفيتي، ومن أعظم الجامعات العالمية...تقع في أجمل المواقع (تلال لينين)... بخلاف الدراسة كان الطلاب في جامعة موسكو يمارسون نشاطات مختلفة، نشاط رياضي، سياسي... وكانت لبابكر نزعات سياسية تقدمية، ولكنها تتسم بالاستقلالية.. وكان قاري من الدرجة الأولي وافتكر ، والله أعلم، أن ذلك ربما يكون من أثر خلفيته السياسية الاجتماعية وطبيعة دراسته الجامعية في الجامعة الأولي في الدولة السوفيتية، قرأ في السنين الأولي عن الشيوعية بكثافة، وقد انجذب ‘كالكثيرين، بالنظرية وهي في حد ذاتها جاذبة جداً بالنسبة للمثقفين من أمثال بابكر، واعتقد أن الأغلبية منا، تقريباً، قد انجذبت إلى القراءات عن المجتمع الشيوعي الذي هو مجتمع فيه كل الخيرات الحسية وفيه تتوفر كل الوسائل المعيشية المسهلة لكل المواطنين، وفيه سلام وفيه أمن، ولكن بالنسبة لفئة مستنيرة ولها استقلاليتها في التفكير وإبداء الرأي كبابكر،شخصياً، هذه الفئة ترى ان الممارسة فيها فارق ما بين النظرية والحقيقة، فكان يحفظ من النكات الروسية السياسية (الشعب الروسي شعب فكه ونكتته السياسية حاضرة وعميقة) ويضيف إليها من "بهاراته" الخاصة ما يشيع في الجلسات جو من الحبور والسرور... كان ناقدا للتجربة بغير شطط وحامدا لكل محاسنها ... وافتكر كانت تلك الفئة من النقاد التقدميين لهم بصيرة نافذة، ومن بينهم بابكر، والدليل علي ذلك سقوط الاتحاد السوفيتي، والذي ماكان له ان يسقط لولا تلك "المنقصات" التي كان من المفترض ان تعالج بالديمقراطية والشفافية لنحوز علي أفضل النظم السياسية...كانت آراء بابكر تضعه أحيانا في مواجهة "ناعمة" مع الأرثوذكسية اليسارية.... ولعل أكثر ما شد بابكر وتلك النخبة من المثقفين إلى موسكو هو ان المجتمع فيها كتاب مفتوح.... تذهب إلى المتاحف وحفلات الموسيقى والباليه وتجوب شوارع المدينة وتلتقي العديد من البشر من أنحاء الدنيا الأربعة عربا وأفارقة... اسيويين واوربيين ...ومن الامريكيتين.. وتشاهد الأفلام الجادة (أشهرها الايطالية والفرنسية)...رغم تلك الأنشطة الثقافية المتاحة وبتراب الفلوس لكن من جانب آخر تجد معظم الطلاب السودانيين يقومون بجلسات للاستماع إلى وردي ووداللمين وعركي وعثمان حسين وأحمد المصطفي ,....و...والبعض يستمع لام كلثوم والشيخ إمام ويتكلمون في السياسة وخاصة في القعدات... ويطبخون البامية البلغارية والملوخية الناشفة والويكة ...وانأ منهم...وكان من المفترض ان نشعر بالحسرة ونسأل أنفسنا: هل جئنا وتغربنا في ذلك الصقيع لسماع وردي وأم كلثوم واكل البامية والويكة... فعلا لقد انهمك معظمنا في الدراسة ولكن تواضعت تجربتنا الحياتية والثقافية وموسكو حينها هي المكان الأنسب لاشباع الروح من تلك الأنشطة ... ان الحياة في موسكو هي احد الأحلام الجميلة لمن استطاع ان يستغل وقته الاستقلال الأمثل وقد كان بابكر ممن استمتع بتلك الأنشطة وقد تكون البذرة الثقافية الكامنة في وجدانه هي السبب الأساسي ودراسته للصحافة والإخراج التلفزيوني مثَّل البعد الثاني من أسباب النهل من ضروب الثقافة المتعددة والمتوفرة في موسكو.. ان موسكو نموذج لحياة مختلفة ورائعة.. ) احمد الامين هارون-1 (يزداد البعض ارتباطاً بالحياة الروسية عن طريق الزواج ثم الإنجاب... في الغالب يتعرف المبعوث على احد زميلاته في الفصل الدراسي أو الداخلية حيث يسكن الجنسين في داخلية واحدة وفي بعض الأحيان غرف متجاورة ويستعملون مطبخ مشترك...فتبدأ علاقة زمالة وكبشر في الغالب يحدث الاستلطاف وقد تصبح زوجتك لاحقا وأم أولادك...لكن تفشل معظم تلك الزيجات وهذا لاينفي النجاح الباهر لبعضها والارتباط برفقة وفية طوال فترة الحياة...ذهب البعض للرفيق الاعلي ومازال أبنائهم وزوجاتهم بالسودان. الروس شعب اجتماعي... وديع ودمعة نسائه في طرف عيونهم الجميلة بعكس الصورة النمطية التي يعتقدها من لايعرفونهم...أول من يحاول أن يتعرف بك في فصلك ومحاولة تقديم يد المساعدة هن البنات...ثم يأتي الأولاد بعد ذلك...في مجال دراسة بابكر كانت البنات لهن الغلبة ...أما الداخلية - وقد زرتهم مرتين أو ثلاث- فلاتري إلا البنات ...ومرات أداعب الصديق البجاوي (من عرفني ببابكر) هاشم محمد الحسن: ( ياهاشم في رجال في الداخلية دي غيرك وبابكر؟) ... فيجيب بابكر: (نحن مرات قاعدين ننسي إننا رجال) ...في كثير من الحالات نجاح واستمرارية بعض الطلاب الأجانب ومن ضمنهم السودانيين كان نتاج علاقة طيبة مع فتاة روسية وتقديمها ليد المساعدة وبالذات في البدايات الأولي لعدم التمكن من اللغة...وعلي ذكر اللغة ، كان بابكر متحدثا طلقا تمكن من نواصي اللغة وجزالة العبارة...وراوي مبدع للنكتة الروسية وقد يكون مؤلفا لبعض النكات....في هذا الجو الذي وصفت فان كل من له مشاعر إنسانية لابد أن صادق وارتبط عاطفيا بفتاة روسية لطيفة الروح حسنة الملامح...وأكيد بابكر ليس استثناءً عن ذلك...ولكن في النهاية يتلاشى التفكير العاطفي وينتصر صوت العقل لان في جيلنا كان الزواج يأتي بعد أن تؤدي دورك في مساعدة والدك في تعليم إخوانك والارتقاء بحياة الأسرة المعيشية...وفي الزواج بالأجنبية وأنت في مقتبل حياتك العملية أنانية مفرطة وهروب من مسئولية الأسرة الممتدة...أكيد شخص مثقف ومرهف (ومانقول حبِّيب، بكسر الحاء) كبابكر لابد أن يكون قد مر بهذه التجربة ..وبالطبع عانى من ألأسي والتمزق خلالها...وعاش الألم الذي يتركه في فؤاد تلك الفتاة التي عشقته وكان من المعروف عند بلوغنا السنة النهاية يكون معظم زملائك من الروس بناتا وأولادا قد تزوجوا ...هذا إن لم ينجبوا...) احمد الامين هارون-2 لم يُبحِر بابكر بعيداً عمّا قاله دكتور أحمد هارون، إذ ألقى مرساته بين يدي شقراء أوكرانية، أوصله هيامه بها إلى حافة الزواج، مما جعل الأسرة تضع يدها على قلبها حين أبلغهم بما عزم عليه. لا ندري تماماً ماذا حدث بينهما، إلا أنه تراجع عن فكرة الارتباط، بتلك الفتاة، أو بغيرها، ولم يتطرق قط لهذه العلاقة أو يذكرها بعد انتهاء دراسته وعودته للوطن. هل كان حباً حقيقياً ياترى أم كما قال د. احمد : ( في هذا الجو الذي وصفت فان كل من له مشاعر إنسانية لابد أن صادق وارتبط عاطفيا بفتاة روسية لطيفة الروح حسنة الملامح...وأكيد بابكر ليس استثناءً عن ذلك ولكن في النهاية يتلاشى التفكير العاطفي وينتصر صوت العقل) يتبع... [email protected]