كنت أتمنى أن لا أكتب هذه السطور عن زميلة عزيزة وأخت كريمة قد غيبها الموت حديثاً عن دنيانا...وهى العزيزة دكتورة ريم..ام ابراهيم وإبنة إبراهيم أحمد عبدالكريم ، ذلك الرجل الخالد المثقف والرقيق كنسائم الليل...عندما دخلت جامعة الاحفاد لاول مرة كمحاضر فى مدرسة علم النفس قابلت دكتورة ريم ، واذكر أنه كان اليوم الثالث ، وكان يفترض أن اتشارك معها تدريس مادة معينة ، وقد حبذت أن القاها قبل أن أبدأ اى شى لإعتبارات أدبية ومن باب التهذيب وحفظ الحقوق فهى كانت الاستاذة الاساسية للمادة...وكان هكذا..نظرت الى بتفحص وقالت بطريقتها تلك سريعة الإيقاع: أنا شايفاك وين يا أخوى؟ فقلت: لم نلتقى إطلاقاً ولكن يبدو أن شكلى سودانى "إستاندرد" ولهذا أبدو مالوفاً ..هذه هى الحكاية...ضحكت دكتورة ريم بتلك الضحكة الصافية خالية التعقيدات وردت: ظاهر عليك انتا ذاتك حكاية! والظاهرة حقيقية ومرصودة ذلك أن كثيرا من الناس والذين التقيهم لاول مرة يسالوننى نفس السوأل...أنا شايفك وين؟ جامعة الاحفاد مؤسسة تعليمية عتيقة ومتميزة ورسالية منذ تأسيسها على يد العالم بابكر بدرى ، لذا نجد أن معظم الاساتذة العاملين بها تتوافر فيهم خصائص مشتركة وإحساس وطنى معين ، يقود كل هذا العمل الدوؤب رجل قمة ذو عطاء دائم هو بروفسير قاسم بدرى ، والرجل نفسه عالم نفس مجيد وشخصية فريدة ، وقد لايعلم كثير من الناس مواقفه الواضحة فى كثير من الامور ثم دعمه اللامتناهى للطالبات وهن يعتبرنه كوالدهن تماما ...لذا لاعجب ان كانت دكتورة ريم من المختارات ونالت الشرف وهى سليلة أسرة عريقة وطيبة. الموت حق والفراق محتوم وإن كنا نظن متوهمين احياناً أن فى ذلك فسحة كافية وبعض مهلة...ومع ذلك هناك أشخاص يعرفون بحدس ما وإحساس خفى بدنو ساعة الرحيل ولكن الفكرة لا تزعجهم وتقض مضاجعهم بل العكس تحفزهم ليكونوا أناساً أحسن فى علاقاتهم وأجود فى بشريتهم...ريم كانت من ذلك النوع الفذ النادر...كانت تعانى من عدة علل جسدية ومع ذلك تسيقظ بمزاج صافى وحس فريد ورغبة عظيمة فى العطاء والإنجاز...كانت أستاذة متالقة وزميلة مثالية لم اسمع منها قط جملة صعبة التصريف فى حق زميل أو زميلة...كانت تضحك من نفسها أحياناً وتعلق بسخرية على أشياءها وصعوباتها...كنت أشكو اليها كثيرا من ظلم الدنيا والزمان والناس وذوى القربى فتكلمنى كلام الإيمان الحق والعلم الراسخ ثم تعقب ذلك بفكرة ساخرة من الناس وعللهم وحتى دنياهم..مدت لى يد المساعدة فى كوارثى الطبيعية وطببت كلماتها كثيراً من جراحاتى الدنيوية..هكذا كانت معى ومع الآخرين أيضا ، وقد كانت فلسفتها فى هذه الزائلة مثار تعجبى...فلسفة بسيطة لاتنظر وتهتم بالاشياء التافهة بل الى الوجود برمته قائلة بايمان صوفى وعميق وابتسامة طفل : الدنيا دى فيها شنو؟! لايدرى كثيرين أن عالمنا هذا لايحتوى على شىء ذى قيمة ...إنها رحلة صغيرة قد نجعلها محتملة أحياناً أو قاسية صعبة احايين أخرى ، ثم يعود التراب الى التراب وتبقى فقط الكلمات الطيبات المتسامحات مع كل شىء ومع اى شىء...حتى يعود الطين لاصله أدعو لكى زميلتى وصديقتى ريم بالقبول والثواب. صدمت إيما صدمة يوم سمعت نبا رحيلك وكنت أظن أن لنا لقاء آخر فى رحاب جامعة الاحفاد ولكن...يقول المغنى الإسبانى: إن شيئاً يموت فى الروح عندما يرحل الصديق ، وهذا حق فقد شعرت بأن هناك جزء من روحى قد تجمد أو بتر...شىء لايمكن أن يعود..أسال الله أن يلهم أهلك وأبنائك الصبر والسلوان ، وكذلك جامعة الحفاد وبالاخص الزملاء والزميلات بمدرسة علم النفس فقد أذهلهم رحيلك المفاجى ووداعك الذى لم نكن مستعدين له..حتى نلتقى فى دنياوات آخرى لكى الثواب على ما بذلتى واعطيتى لاهلك ووطنك... لك الجنة يا ريم... ولنا من بعدك الآسى ثم الصبر... لنا الآسى ثم الصبر... د.أسامة عبدالحفيظ محمد رحمة [email protected]