أثرُ الفرشاة , كأثرِ الغمام (قراءة في ديوان درويش "أثر الفراشة") ..أو كانتظار حافلةٍ تحت المطر ! د.عبد الماجد عبد الرحمن " أعتقد أن الشعر شيء حميمي جداً , جوهري جداً , ولذلك لا يمكن تعريفه دون الإفراط في تبسيطه. فمحاولة تعريف الشعر شبيهة بمحاولة تعريف اللون الأصفر, أو الحب , أو تساقط الأوراق في الخريف. لا أعرف كيف يمكن أن تعرف الأشياء الجوهرية " ( الشاعر الأرجنتيني بورخيس). ■ تكمن عبقرية محمود درويش , في قدرته على جذب محبيه وقرائه , بحيث يبدو لهم دائماً جديداً , وربما بذات الطعم والنكهة التي عرفوها – حين طالعوه أول مرة -في كل مجموعة جديدة تصدر له, كما ألمح بذلك الكثير من القراء والنقاد معاً (عبده وازن, مثلاً). وكان ممكناً لشاعرٍ , في هيئة درويش , أن يتكلس بسهولة وتترهل نصوصه , وتخبو , مع الأيام, تلك الجذوة الغامضة , التي كانت مشتعلة يوما ما. ولكن درويش, من شاكلة المبدعين الذين عرفوا كيف يحتفظون على الدوام بمفتاح "الكنز المقدس" ومن الشعراء الذين تدربوا باستمرار على ابتكار أسلوب جديد "لسرقة النار" مرة أخرى. ■ في ديوانه (أثر الفراشة, 2008), عن دار رياض الريس للكتب والنشر اللبنانية, يأتي درويش هادئاً وجافاً وبارداً وناشفاً ورومانسياً للغاية – يطفو ويغوص في اللحظة نفسها. يمكنك دائماً , أن تقرأه بروح النكهة الأولى , وعبق النشيد الأول , برائحة الأرض-السراب والطريق الذي- من فرط طوله ووعورته- بات غاية في ذاته (كلما طال الطريق, تجدد المعنى), كما قال الدرويش. يأتيك وامضاً بالخوف الدائم على الأشياء الجميلة الذاهبة , ومزيناً بغموض ورهبة وجلال ما سوف يأتي من أشياء. ■ أهم ما يميّز (أثر الفراشة) , هو اشتغاله على أفق الواقعيات الجديدة, التي سوف يرد الكلام عنها بشكل منفصل ضمن مقالِ, ولسوف يشار إليها أيضاً من وقت لآخر في كتاباتنا لأهميتها. فهنا تتنزل لغة الشعر من عليائها في (السماء) إلى ملامسة الهم (الأرضي) المتشكل في إطار يومياتي-حي ؛ أو قل يتجه الشعر من (أسفل) إلى (أعلى) بسرعة الروح , وعظمة الأشياء الهامشية الصغيرة. وهذه المعاناة يلخصها الشاعر في المقطعٍ: (هو النبيذ, يرفعني إلي مرتبة أعلى / لا هي سماوية / ولا هي أرضية/ ويقنعني بأن في وسعي أن أكون شاعراً/ ولو لمرة واحدة !). ومن ذلك أيضا , تجلي الصوغ الشعري في شكل الذات الشعرية مشتبكة مع الآخر وهي تلبس لبوساً مختلفة (النرجس وعبّاد الشمس) : الفارق بين النرجس وعباد الشمس هو الفرق بين وجهتي نظر : الأول ينظر إلى صورته في الماء, ويقول : لا أنا إلا أنا . والثاني ينظر إلى الشمس ويقول : ما أنا إلا ما أعبد. وفي الليل , يضيق الفارق ويتسع التأويل ! ■ في هذا الانكشاف الشعري-النثري , فرصة لتعميق جدل الذات والآخر, وتجديد أدواته تصعيداً له من مستواه المرتبط (بالأرض) , إلى آفاقه الأرحب في( السماء). إذ , في الليل يتسع التأويل وتغوص الذات في نفسها أكثر فأكثر , فليس أفضل من الليل, في تغطية الآخر وكشف الذات. وفيما تضيق العبارة, تتسع الإشارة ويتمدد المعنى وينفتح التأويل. ■ يأتي الكشف الشعري عبر (حوار الذات والآخر و الذات والذات) في شكل شجارات ومناكفات (الأنا) مع نفسها من جهة , ومع الشعر من جهة أخرى (بشكل يكاد يكون نموذجياً لما يسميه الدكتور محمد صابر عبيد بثنائية : شعرية الأنا وأنوية الشعر). هنا تجد لغة (الميتا-شعر)- حيث يهجم الخطاب الشعري على نفسه محاولاً تفكيكها (وكما أشرنا مراراً فهذه من التقنيات الحديثة, وتبرز بشكل لافت في الشعريات السودانية الجديدة) : (صيف خريفي على التلال كقصيدة نثرية/... والطبيعة جسد يتخفف من البهرجة والزينة / ريثما ينضج التين والعنب والرمان/ ونسيان شهوات يوقظها المطر. ( لولا حاجتي الغامضة إلى الشعر, لما كنت في حاجة إلى شيء) - يقول الشاعر الذي خفت حماسته وقلت أخطاؤه). ■ هنا تغدو الذات في مسيس الحاجة إلي الشعر, بوصفه مبرراً وجودياً لها. ويتكرر ذلك , في قصيدة بعنوان (شاعري/آخري) , حينما يُفاجأ الشاعر بالقصيدة تأخذ شكل الحلم الليلي, وتغيب مع الفجر: (في الصباح, يقول: كأني حلمت بها/بالقصيدة... أين هي الآن؟/يشرب قهوته شارداً, حاسداً غيره/ويقول أخيراً: هنيئا له شاعري/آخري!) وفي سياق متصل نقرأ : (جبل وبحر وفضاء. أطير وأسبح, كأني طائرٌ جوُ-مائي. كأني شاعر! كل نثر هنا شعر أولي محروم من صنعة الماهر. وكل شعر هنا نثر , في متناول المارة). ونقرأ في نص آخر: (هسيس الكلمة في اللامرئي هو موسيقى المعنى/ يتجدد في قصيدة يظن قارئها/ من فرط ماهي سرية / أنه كاتبها/وكلمة عادية/ يقولها لامبالٍ للا مبالٍ آخر / على مفترق طرق أو في السوق / هي ما يجعل القصيدة ممكنة!) ■وفي الحقيقة الديوان كله يهجس بخطاب ميتا-شعري (بكلام الشعر عن الشعر) بشكلٍ متصاعد ودوار ومرتبط بتيمة الشاعر الرئيسة (الهوية- في شتى مناحيها وتحققاتها): (أنا هنا وماعدا ذلك شائعة ونميمة ! ). وهنا يتجلى أعنف تأكيد للذات الشعرية – من خلال هذا النفي القوي والتسفيه لأي خطاب خارجي. ■ وفي قصيدة بعنوان (لم أكن معي) , يواصل الشاعر الغوص عميقاً في حوار الذات واجترار الأسئلة الوجودية الحارقة حتى يصل إلى درجة الحياد التام , درجة العدم الخالي تماما من العاطفة والألم والإحساس بالزمن – حيث يغدو الزمن كلياً ومتعالياً جداً:( كنت مستغرقاً في اللاشيء/في الفراغ الكلي الكامل/منفصلاً عن وجودي/جاراً لعدمٍ غير متطفل/ وخالياً من الألم/لم أحزن ولم أفرح/فلا شأن للاشيء بالعاطفة/ولا شأن له بالزمن/كنت لاشي في حضرة اللاشيء) . وهذه حضرة فاردة الدلالة , بسبب الفراغ الهائل الذي تحاول تعبئته من خلال تعدد وجوه "الحقيقة" , إذ (الحقيقة أنثى مجازية/ حين يختلط الماء والنار في شكلها/ والحقيقة نسبية حين يختلط الدم بالدم في ليلها/ والحقيقة شخصية/ في القصيدة /لا هي ما هي/ أو عكسها/ أنها ما تقطّر من ظلها!) فحقيقة الذات, وكذا حقيقة الآخر, لولبية وسيّالة و نسبية ومتعددة كتعدد المعنى في القصيدة. هذا الاضطراب (الأنوي-الآخري) يبدو واضحاً أيضا في اختلاط وتشابك الضمائر(أنا- هو – أنت – هم-هما- سواي- سواك ... الخ) في عدة قصائد , إذ (ما أنا إلا هو/وما هو إلا أنا/ في اختلاف الصور). ■ وتضيء لغة الديوان بالفكرة الصادرة عن تأملٍ و معاناة وجهد وتعب, كقوله: (الكمال كفاءة النقصان / والذكرى هي النسيان مرئياً). وبسبب من هذا , قد تأخذ قصائد الديوان , في بروزها الأول, نشافة العلم وجفاف التقارير. ولكن ما تلبث, أن تظلها روح الشعر العميقة الهفهافة , فتعود شكلاً آخر, ورداً آخر, زنبقةً أخري , أبداً صغيراً مؤثثاً بالحنين والذكرى وأوجاع الشتاء.. تعود مطراً آخر.. غيمة أخرى: (قالت له/الليل تاريخ الحنين, وأنت ليلي/قلتَ لي, وتركتني/وتركتَ لي ليلي وليلك باردين/وسوف يوجعني الشتاء وذكرياتك/سوف يوجعك الهواء معطراً بزنابقي/لا بأس/سنعتني[ أنا والغريب] بليلنا ونضيئه/سنؤثث الأبد الصغير/... الليل تاريخ الحنين وأنت ليلي). فالذكريات والحنين تستحضران بالضرورة ( الآخر) , ولكن الليل , بوصفه تاريخاً للحنين , يعرّي (الأنا) حينما يغطي( الحبيب- الآخر- الغريب). وبما أن الحبيب هو تاريخ(المحب- الأنا) , يصبح الآخر هو تاريخ(الأنا) , يصير جزءاً من (الأنا) الشعرية ومستقلاً عنها في آن واحد. وتغدو , من ثم , الذكريات, ..كنزهةٍ في حرش الصنوبر, أو كانتظار حافلةٍ تحت المطر. ■ ديوان (أثر الفراشة) , لمحمود درويش, يقدم شعرية عمودية تتحرك من (أسفل) إلى (أعلى) , ويفتح على مزاج شعري واقعي جديد يحتفظ بعذوبة الشاعر الأصلية , ويضيف عناصر جديدة لدعم تيمات وصور قديمة و أثيرة في عالم الشاعر -- بعض عناوين القصائد أما أنها تكرر عناوين في دواوين سابقة كقصيدة "لو كنت غيري" التي جاءت أيضاً في ديوان"لا تعتذر عما فعلت"-- أو هي تكرر, بشكل ما, إطارها وصيغها). أكثر من هذا , يقدم الديوان خطاباً شعرياً منشغلاً بتفكيك ذاته , في إطار توسعة ( الهوية الأنوية المحاصرة والمتأزمة) إلى أفق (هويات إنسانية جديدة متعددة) , دونما تخلٍٍ أو تذويب قسري للأولى. [email protected]