ها هي رسالة من سلطنة عمان تحرضني علي فتح النوافذ منتميا ضد الإنغلاق ، استاذي الزاكي حمعة يوسف ، استاذ مادة التاريخ بمدرسة كادقلي الثانوية العليا ( تلو ) يقترح امامي نوافذ مفتوحة ، يا لها من دعوة الي التأمل ، الان فقط أتذوق لذة النص ، أتحسس بتلقائية علائق المكان بالذاكرة و جدال الذاكرة مع المكان ، في إهدائي لكتابي القصصصي الاول ( حكايات و أحاديث لم تثمر ) كتبت (( إلي كادقلي تلك المدينة التي علمتني التأمل ، إلي جماعة السديم المسرحية .... حيث شكلتني بحلمها الدؤوب و بحثها العميق عن مسرح جاد ، إلي كل من ساهم في تكويني و دفعني نحو نغسي كي أري بعمق )) هل تذكر أستاذي مرة خربشنا علي وجه (بسمارك) و تساءلنا ، هل ( الزبير باشا) يستحق تلك البطولة التي يستحقها ( الفكي علي الميراوي) ؟ ،كنا نهرب من حدة الجدول ونتساءل عن إغتيال (وليم دينق) وقد نتمادي أكثر و نحلحل تلك الخيوط الدقيقة في نسيج إختناق المزارعين في (عنبر جودة) ، أنت تعرف ان(خور حجر المك) ينسف تلك المعادلة التي تسيطر علي ذهن الاستاذ الحميم (حياتي الطيب) ، (الداف) يقف جامدا امام هدير تلك المياه البنية اللون فها هي عربة المدرسة او عربة المدرسين كما كان يظن الاستاذ ( حياتي) القادم من امدرمان ، المدرسون و الطلبة و الكتبة و المحاسبون و العمال ، كلهم يهربون من سيطرة الألة و يتركون العربة ( الداف) خلفهم و يتحركون في الاتجاهات الاربع ، تهيم تلك الخطوات التي عبرت جمود التصنيفات و تخطو دائما نحو الممكن بين المستحيلات ، اذكر أنك شاركتنا هذا المشوار الدائري و الممتع بفعل ندواة ذلك الخريف ، هل اخبرك أستاذي عن قمر يتسكع بين الغيوم و الليل يكاد ان يعلن عن خضرته _ لاحظ خضرته – علي تلك الجبال ؟ ، او هل تذكر تلك البروق و الرعود المرعبة ، اعتقد ان صوت المدافع يتضاءل امامها الان . مقام محبتي أستاذي الزاكي جمعة تلوح لي دائما بتلك الشفافية ، بكل هروبك من الافكار الجامدة ، بكل ذلك الحس الإجتماعي ممتدا في تجربته الجمعية ، تلوح لي مبتسما و تسألني الان ، الان ؟ ، تأمل أستاذي هذه اللحظة الزمنية في بعدها الدرامي ، شوف كم سنة ؟ ، الان تسألني إن كانت رسالتك تدخل في السرور ؟ ، لماذا تراني أدمن الجملة الإعتراضية ؟ ، لاحظ الخروج من جملة إعتراضية والدخول إلي أخري مكثفة الإعتراض ، علي كل ، أقول ، تلوح لي أستاذي و أنا أتامل هذه الجملة في إهدائي لكتابي (حكايات و أحاديث لم تثمر) – ( إلي كل من ساهم في تكويني و دفعني نحو نفسي كي أري بعمق ) و هانذا أستاذي مدفوع إلي نفسي كي أري بعمق حتي لو في العتمة تلك التي ستهزمها النوافذ المفتوحة ، مرحبا بك و تحياتي و ودي العميق . (( أخي العزيز الاستاذ يحيي فضل الله المحترم لك التحيات الطيبات المباركات و لاسرتك الكريمة و زملائك السلام والمحبة وبعد برغم إنك قلت أن ما تفكر فيه يأتيك مختارا ، كأن تبحث عن قصيدة ل(الطيب ود ضحويه) فلا تجدها ولكنك في في يوم أخر تفأجأ بديوان (ود ضحويه) يأتيك دون موعد ، هكذا قلت عن نفسك و لكن ، هذه الرسالة التي بين يديك لم تتوقعها و لم تبحث عنها في يوم من الايام ، فأرجو أن تقبلها يا أخي ، فإن أدخلت إلي نفسك السرور فالحمدلله و إن لم تدخله فالحمدلله كذلك و العذر من عندي في هذه الحالة مبذول لك حتي كل الرضي ....... ثم :- إطلعت عبر جريدتنا (الخرطوم) الغراء علي مفكرتيك ( أنا شخصيا ) و ( كيدمان وصل) فعدت والعود أحمد ، إلي كادقلي و إلي احلي سني عمري تلك التي قضيتها هناك و من حينها بدأت في كتابة رسالة لك ، لكنها – الرسالة – لم تكتمل حتي الان فالحديث عن كادقلي يطول و أعد بأن احكي قصصا و ذكريات عن تلك الديار الجميلة في مرات قادمات بإذن الله. ذهبت إلي كادقلي بمحض الصدفة لأبقي بها أربع سنوات هي كما ذكرت أحلي سني عمري علي الإطلاق و ربما كان هذا الكلام غريبا للذين لا يعرفون عن كادقلي إلا انها ( كاد يغلي ) فقط و ذهابي إلي كادقلي كان مصادفة لها قصة. بعد تخرجي في كلية التربية جامعة الخرطوم ثم نقلي للعمل في معهد التربية الدلنج ، كانت تلك السنة التي بدأت فيها وزارة التربية و التعليم تركز في تدريب المعلمين علي الطريقة و بالتالي كان المعلمون المهمون بالمعاهد هم معلمو الطريقة – قدامي معلمي الابتدائي – و صار معلمو المواد من أمثالنا بلا عمل يذكر ، حيث صار العمل كله عبارة عن مشاغل تربوية و أذكر ان عميد المعهد كان المربي (حامد محمود) و كنا نكثر عليه بالأسئلة عن ماهية الشغل و ما معني الكلمة فكان عندما تزعجه الأسئلة يقول لنا (( الشغل لا هو حصة و لا هو محاضرة و إنما هو شغل )) فكان كمن يفسر الماء بالماء ، و هكذا قضيت شهرين او ثلاثة بالمعهد زاملت خلالها خيرة المعلمين و أفضلهم و لكن ، كان جدول حصصي (9) حصص فقط ، حيث أدرس التاريخ لكل المعهد مع زميلي الدكتور الان (النور دفع الله) و هو معلم هاو و رقيق و علي خلق ولكن كنا ما نزال في فورة الشباب و الحماس للعمل فلم أقتنع بذلك الحال العاطل و قد شكوت ذلك الحال إلي أستاذنا ( أحمد إسماعيل النضيف) مساعد المحافظ للتعليم الذي عين كأول مساعد للمحافظ للتعليم في المديرية الوحيدة التي سميت في ذلك العام يوليو 1975م وعين محافظا لها السيد ( هاشم حسن عبدالله) الذي كان في الاصل نائب محافظ مديرية كردفان الام و قد كان الاستاذ ( النضيف ) في زيارة للمعهد و هو في الاصل كان مسجلا لكلية التربية بالخرطوم قبل تعيينه مساعدا للمحافظ و من هنا كانت صلتي به. تشاء الصدف أن تحدث مشكلة في مدرسة كادقلي التانوية(تلو) بسبب نقص المعلمين ، فقد كانت المدرسة شعلة من النشاط الطلابي الثوري الجاهز دائما للإشتعال و إحداث حركة و كان طلابها من النوع الناضج و الهائج الذي لا يرضي الضيم برغم انهم كانوا أكثر الطلاب أدبا و تأدبا لمعلميهم ، المهم كانت المشكلة أساسا نقص معلم مادة التاريخ حيث ان المعلم الوحيد و أسمه ( محمد عبد الصمد ) كان قد ترك المدرسة هكذا و ( دج ) في الخلاء و يقال إن عقله لم يكن سليما تماما ، المهم ، جاءت الحكومة و أجتمعت مع الطلاب المعتصمين و كان طبعا أول المسئولين السيد مساعد المحافظ للتعليم أستاذنا الجليل (النضيف) وهو رجل سامق القامة ، مياس ، شديد الرأي ، لا يعرف الإنحناءة أبدا إلا لله سبحانه و تعالي ، إجتمع مع الطلاب و(عصلج ) (اولاد تلو) في حكاية معلم التاريخ و لان المشاكل كلها قد حلت في الإجتماع و لم تبق إلا هذه تفتقت قريحة أستاذنا و قال للطلاب متحديا :- ( اذا أحضرت لكم معلم التاريخ غدا فماذا أنتم فاعلون ؟ ) ، أجابوا بأنهم سيذهبون الي دراستهم فوعدهم ان المعلم سيصل غدا ، وقد كانت الصدفة سيدة الموقف فعلا ، حيث تصادف أن مدرسة كادقلي الثانوية في ذلك العام كانت قد أدرجت ضمن مدارس المجموعة (ب) و هي المجموعة التي يذهب طلابها في إجازتهم أثناء فترة الخريف و يبدأ عامهم الدراسي في اكتوبر و أذكر ان هذا الامر كان في نوفمبر و كانت مدارس المجموعة (أ) و منها معهد التربية بالدلنج في إجازة الفترة الاولي و التي كانت تسمي في ذلك الزمان إجازة (نص السنة) وقد كنت أقضي إجازتي بين أهلي في مدينة ( الابيض)حين جاءني أحد الإصدقاء و طلب مني ان اذهب الي مكتب التعليم لمقابلة الاستاذ ( محمود الامين الضرير) كبير موجهي التعليم الثانوي حينها وهو كان الشخص الوحيد في ذلك الوقت المسئول عن كل التعليم الثانوي في مديرتي شمال و جنوب كردفان – حين لم تكن مساخر هذا الزمان موجودة – قابلت الاستاذ ( الضرير ) فأفادني بأن الاستاذ ( النضيف ) إتصل به من كادقلي و هو في ورطة و حلها في وجود معلم تاريخ و طلب أن يبلغوني هذه الرسالة :- ( ان تحمل ملابسك فقط حتي و لو في (بقجه) ... ) هكذا قالها :- ( وتحضر عنده في كادقلي باكرا ). أخذت الرسالة و فهمت المقصود و كان علي ان اكون في مستوي الموقف و التحدي ، فات علي أن اذكر لك ان الاستاذ (الضرير) أبلغني بأنني اذا قبلت و سافرت الي كادقلي فسوف أكون في مامورية – يعني بدل سفرية و كده – بالنسبة لي كانت المسألة واضحة ، استاذي ( النصيف) في ورطة ، مشكلة ، الطلاب ليس لديهم معلم ،(النضيف) في تحدي ، كل ذلك جعلني لا أفعل شيئا غير ان أكون في الصباح الباكر في (موقف) عربات الجبال و لاول مرة في عمري أركب سيارة وجهتها بعد الدلنججنوباوالدلنج نفسها شاهدتها قبل ثلاثة شهور فقط. كان الخريف في ذلك العام رهيبا فوصل البص الي كادقلي الساعة الثانية عشرة – منتصف الليل – لاجد الاستاذ (النضيف) مساعد المحافظ للتعليم – تصور – في إنتظاري ليأخذني بسيارته ( الميركوري الاخضر ) إلي مدرسة( تلو) و كنت واثقا ان المربي الجليل أراد ان يقول للطلاب :- ( هكذا قد أوفيت بوعدي و وصل المعلم في اليوم التالي فأذهبوا الي دروسكم ) و كان ذلك كالمعجزة حقا ... ثم أصبح الصباح لاقابل مدير المدرسة و كانت كادقلي او ( كاد يغلي ) ،عروس الجبال و اجمل المدائن تلف خصرها الرقيق سلسلة الجبال الخضر حتي تكاد تقطعه ، اهلها حلوين و مضيافين سحنتهم سحنة اهل السودان و ريحهم طيب كاهل ود المكي في مسدار ( قطار الغرب ) الذي يصور لك محطة (الابيض) حتي كأنك تسمع صافرة القطار ، كانت كادقلي لا تنام و كانت كل المدينة تقضي ليلها ضاحكة ، أقول كلها تماما ، تضحك من (السمه) حيث ناس (الطيب عز العرب) و اولاد (المراد) حتي ناس (عبدالقادر) في (تافري) و (صلاح عقب) في ( الملكية) و من ناس ( ذو النون) و ( عروة) في (حي السوق) حتي ناس (سومي) في (حجر المك) ، كلها مدينة ضاحكة ، أهلها لا يحملون إلا هم الحب كجيل (محمدالمكي) في (هايدي) و (الشرف القديمة) ، حفلات (الترم ترم) و شباب كادقلي المرح الضاحك ( تافري) ، ( البانجديد) ، ( قعر الحجر) ، ( حي السوق ) و ( السوق البره) و ( حجر المك ) و (حلة الفقراء) و (تلو) و (السمه) و (حجر النار) و (كليمو ) و ( كلبي) و (كلبا) و (مرتا) و في كل ركن من تلك الاحياء كانت لنا ذكري محفورة في الخاطر و الوجدان و أصدقاء حميمون تربطنا بهم علائق ما زالت باقية برغم رصاصات الهوس الديني الذي تنام عليه المدينة الان ، يا للمفارقة ، مدينة تنام علي أصوات الموسيقي و يستنشق أهلها عبير الياسمين و الريحان الان يستنشق أهلها البارود و رائجة الجيف. بعد الستة أشهر الاولي طلبت منهم ان يوقفوا بدل السفرية و ينقلوني إلي كادقلي فقد طاب لي المقام )) يا لهذا الحنين – أستاذي – لا خوف مطلقا من مغبة ان نتهم بالنوستولوجيا ، (علي المك) في مقدمته لديوان (خليل فرح) جوهر علاقة (الخليل ) بامدرمان بهذه الجملة ( يا لهذه النوستولوجيا الامدرمانية ) ، حين رحل عن عالمنا هذا ( الوناس) السوداني العظيم تساءلت ( تري كيف تختار امدرمان ضحكتها الحزينة ؟ )، ها أنت استاذي تحدثني عن ضحكات كادقلي و بالمناسبة لي قصيدة بعنوان ( كادقلي أهزوجة للتداعي و الإنسجام ) اقول فيها و أنا في إنتظار الطوف العسكري كي يوصلني إلي كادقلي ( و أعرف شوقي إليك يعربد في جنبات الشوارع يدك حواجز حظر التجول و يغري الأماني بحلم الوصول إليك وأنت التي سكنتني و أعرف أن إنتظاري إنتصاري علي قبح كل الحروب و حاسة نهب الشوارع لدرب إليك يؤدي ) أستاذي لا املك إلا ان ألتقط الان ضحكة من تلك الضحكات و أنت طرف فيها ، هل تذكر ( كمال عوض ) – ودعك حاج عوض ، الله يرحمه – و شقيق ( احمد عوض ) –سكرتير نادي الاهلي في تلك الفترة ، (كمال عوض ) الملقب ب(تركش) وهي إختصار في مقام الدلع لتلك النحلة الشرسة التي تسمي (ام تركش) ، صبي مشاغب ذو متاعب طريفة ، في مساء صغير كما يقول ( محمود درويش) ، كنت انت مارا بشارع (الإسبتاليه) ، بنك (النيلين) علي يدك اليمين زي التكنك جاي من (كليمو) و خليت المديرية وراك ، قطع شك تكون هسه يا أستاذ شميت ريحة مخلفات طيور (ابو الريهيو) الناصعة البياض حتي أنه – البياض – يحتل حتي مخلفاتها ، طيور (ابو الرهيو) التي تستعمر هذا الشارع المظلم دائما ، كنت أنت تمر من هناك و فجأة يقترب منك هذا الصبي المشاكش (كمال تركش) ( لو سمحت ممكن ولعه ؟ ) و حين أخذ سيجارتك ليشعل بها تلك التي معه إكتشف انه امام استاذه الزاكي فما كان منه إلا ان هرب من امامك و لكنه هرب و معه سيجارتك ، هل تذكر هذه الطرفة ؟ أستاذي الزاكي جمعة يبدو ان النوافذ ستظل مفتوحة و شكرا علي هذا التحريض الجميل .