"أحيانا , يبدو لي النقاد وكأنهم يخاطبون أعمالاً غير تلك التي أتذكر أنني كتبتها" ( جويس قيتس) " النقد أصلا فكرة خاطئة : علينا أن نقرأ لا لكي نفهم الآخرين , ولكن لكي نفهم أنفسنا" ( أي , م. سيون) ما هي الطريقة أو النظرية أو المنهج الأمثل والأفضل لقراءة النص الإبداعي ؟؟ ○ المشتغلون في مجال التدريس في كل مراحله من الروضة إلى ما فوق-الجامعي , يدركون ( أو ينبغي أن يدركوا) أنه لا يوجد شيء اسمه الطريقة الأمثل أو المنهج الأفضل للتدريس . السؤال الصحيح و الأدق : ما هو المنهج أو الطريقة الأنسب ؟؟ كون الأفضل لمن ؟ في أي بيئة؟ في أي سياق , في أي زمن ؟ من هو الذي ينفذ ؟ وهكذا , يحيل سؤال الأفضلية إلي شرط فحص مكونات العملية كلها . ○ بطريقة لا تختلف كثيراً , يتردد السؤال في مجال النقد الأدبي , عن ما هي النظرية أو المنهج الأفضل لمقاربة النص الأدبي ؟؟ ○ ومع وجود اختلافات , بين العملية التعليمية والعملية الإبداعية , فإن الإجابة المناسبة تبدو هي ذاتها : لا توجد نظرية أو منهج ( أفضل) في النقد الأدبي أو القراءة المبدعة للنص . أفضل لأي نص ؟ لأي كاتب ؟ من أي ناقد ؟ ما هي خلفيته الثقافية والنظرية وما هي أدواته؟ ما مدى معرفته بالمنهج أو الإطار النظري الذي يستهدي به لكشف واستنطاق النص قيد القراءة , في أي زمن , أي عصر وأي إطار ثقافي وإبداعي يشتغل النص المراد تطبيق المنهج عليه ؟ ما هي الاتجاهات النقدية السائدة في زمن الكاتب والناقد معاً ؟ ما هي علاقة الناقد بالمستجدات النظرية و التطبيقية في النقد الأدبي والنقد العام (تحضرنا هنا انتباهة الناقد العربي الدكتور محمد النويهي (1917-1980) رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الخرطوم سابقاً؛ انتباهته المبكرة لهذا الأمر والتي تضمنها كتابه "ثقافة الناقد الأدبي" 1969) ؟؟. وثمة كتابات عربية عديدة في هذا الاتجاه, لكنّا نود أن نشير هنا, إلى مقالة حديثة جيدة وردت في موقع لرابطة أدباء الشام بلندن, كتبها الدكتور حبيب بوليس. ومما ذكره بوليس في هذه المقالة, افتقار أقسام اللغة العربية في العالم العربي إلى مناهج تدرس أسس نظرية الأدب وعلم الجمال , فهما في نظره "السلاح الأول للناقد الأدبي". يعدد بوليس عيوب النقد الأدبي في العالم العربي, في النواحي الخمسة التالية: 1. إطلاق الأحكام العامّة بصورة عشوائيّة دون فهم لها في كثير من الأحيان. 2. الاستعراض. إنّ أغلب ما يكتب عندنا من نقد يميل إلى الاستعراضية أكثر ممّا يميل إلى النّقد العلميّ. 3. المحاباة والتّزلّف، وأعني بذلك- نظرا لظروف حياتنا- الحكم على الأديب وإنتاجه من منطلق القرابة والصّداقة والانتماء. 4. السّطحيّة. 5. الخوف أو الرّهبة والمقصود الخوف النّابع من عدم ثقة النّاقد بنفسه وبأحكامه وذلك لقلّة خبرته النّقديّة. (راجع المقالة , في موقع رابطة أدباء الشام بلندن). ○ العلاقة بين النقد النظري والنقد التطبيقي معقدة ومركبة . بمعنى أنها ليست علاقة "ون- ون" أو هي ليست أحادية الاتجاه (not unidirectional ) . فالنظر النقدي الجيّد قد يتجلى فجأة من خلال عملية القراءة النقدية الخلاقة لنصٍ ما . كما أن الموقف النظري الجيّد قد يؤدي لقراءة واعية وجديدة وأكثر كشفاً لنص ما , أو للإطار العام الذي تتحرك فيه نصوص كاتب معين أو جيل معين. والتنظير المؤسس القوي والمدرك جيداً لمنطلقاته , قد يؤدي , بوعي منه أو بغير وعي , لرسم خريطة تطوير أدبي قد تجعل النصوص تتحرك وتصعد في اتجاه معين . ○ ثمة نصوص معينة ترمي نفسها بسخاء في حجر منهج معين أو تنظير نقدي محدد , وثمة مناهج تبحث عن شكلٍ معينٍ من النصوص, كوعي خاطف ينتظر بقلق, جسداً-نصاً محدداً لكي يحل فيه. كما أن بعض النصوص تصرخ فجأة بهستريا , حين تجد وعيها الذي بدوره كان يبحث عنها !! ○ ففي سياقنا الإبداعي مثلا, يمكن أن تقودنا البنيوية-الواقعية , أو البنيوية-التكوينية- الاجتماعية, لقراءة جيدة لنصوص عبد العزيز بركة ساكن وأبكر إسماعيل والصويم ومحمد خير عبد الله ونبيل غالي ومحمد المهدي بشرى ومحمد خلف الله سليمان وعثمان شنقر ومحسن خالد ومحمد محمود( القاص, وليس الباحث المفكر), (خاصة تجليات التابو في بعض هذه النصوص) , ونماذج أخرى كثيرة (ككائنات) هاشم ميرغني و(فلاشيات أو ومضات) لمياء شمت التي تكتب نصوصاً سردية سريعة أقرب إلي ما يسمى بأدب ال(snapshots/flash fiction), والتي ظهرت أخير في كتابها (ومض , 2014 ). وكذلك كتابات فاطمة السنوسي التي تعتبر من رائدات الفلاش- فيكشن في السودان والعالم العربي. و النماذج الأخيرة من النص السردي - الشعري (السرود متناهية الصغر وقصيدة النثر الومضية السريعة) يناسبها بشكل خاص البراديام النقدي المعروف بال( Minimalism) التي يمكن ترجمتها تقريبياً (بالإيجازية).. وهي هنا موقف رؤيوي وفني ذو خصائص شكلية معينة تذكر بمسرحية بكيت الشهيرة (نَفَس Breath) وهي مسرحية مدتها 30 ثانية فقط وبلا شخصيات أو أحداث !!. والظاهراتية الجديدة الممزوجة بحس بنيوي- تفكيكي قد تنتج قراءة أكثر كشفاً لنصوص كتاب مثل عيسى الحلو وعبد الغني كرم الله ويحى فضل الله وعثمان الحوري وعادل القصاص. وكتابات فيصل مصطفى المتجاوزة لجغرافية الأجناس القديمة ( نص "العاصفة" , مثلاً), قد نحتاج في تحليها ومقاربتها لأساليب ما بعد المنهج (post-method) وإلى منهج يمزج الإيجازية والبنيوية-التكوينية والظاهراتية الجديدة معاً في آنٍ واحد. ومن ذلك , المفهوم التفكيكي الرافض للمركزية الصوتية Phonocentricism)) والقائم على فكرة أن (الكتابة) تؤسس نظرياً لمفهوم (الاختلاف). والسحرية-الواقعية –الجديدة الممزوجة بتوليدية تشومسكي قد تقودنا لمحاورة التجليات المتعددة لنصوص بشرى الفاضل ( استخدام ما يعرف بالفجوات المعجمية -lexical gaps- وهي المفردات التي يمكن سكها حسب النظم الصرفية والصوتية للغة ولكنها غير موجودة في المعجم الأدائي الراهن للمجتمع اللغوي. لكن الكاتب, يجترحها اجتراحاً ويتعامل معها وكأنها جزء أصيل من المخزون المفرداتي للغة , وهي التي ستفسر صفة (المشاترة) التي يقول بها الأخ الناقد النابه أحمد الصادق عن نصوص بشرى الفاضل (كتبنا عنه دراسة في مجلة العلوم الإنسانية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا, فلتراجع في مظانها). وهناك وبعض الروايات السودانية الجديدة ( الجنقو.. مسامير الأرض , مثلا ) والصعود الروائي الحالي في دول الخليج قد تودي لتوسيع تحليل الخطاب النقدي في سياق السرد السوداني والعربي الحديث. ○هذه مجرد نظرة عجلى ودعوة جدية للنقد المتجدد الذي يختار لكل نص ما يناسبه من النظر النقدي , والذي يتحرك كالبندول بين النظرية والنص والنص والنظرية , مدركاًً العلاقة المعقدة متعددة الطبقات بينهما. وبالتالي , فلتختفي الرؤية التقليدية التي تقول أن النص يأتي أولاً ثم يتبعه النقد , أو أن يتخيل الناقد أن الطريق بين النظرية الملهمة والنص الإبداعي ذا اتجاهٍ واحد فقط, لا غير . والنقد المتجدد الذي نعنينه وندعوا له, ذو صلة أيضاً بفكر نقدي جديد, يعرف بما بعد المنهج (Post-method), سيكون محور النقاش في المقالة التالية. مصادر: -لجميع كتابات تشومسكي ودراساته اللغوية والسياسية أنظر موقعه: www.chomsky.info)) -النويهي, محمد. ثقافة النّاقد الأدبي، مكتبة الخانجي، ودار الفكر، بيروت، 1969. -بوليس, حبيب. " النقد الأدبي الذي نريده", موقع رابطة أدباء الشام, لندن, (http://www.odabasham.net/show.php?sid=48724) *المقال يأتي ضمن كتاب, سيصدر قريباً عن دار مدارات بالخرطوم بعنوان (النص والخطاب: جدل القراءة والمعنى). [email protected]