قد لا يفوقني أحد في إعجابي الذي تحظى به روايات (عبده بركة),وسر هذا الاعجاب أنني ولأول مرة أستطعت أن أقرأ أعمال روائية (حقيقية)أعمال أحسبُها ضخمة في محتواها الأدبي وثرّة في مضمونها الجوهري وطريقة عكسها للإشكاليات المجتمعية ,أعمال تنبع وتختلق نصوصها من وسط الواقعية السحرية التي يتعاطاها الروائي (عبده بركة).كل من يقرأ إستخطاطياته السردية يجد نفسه فيها ,في أحايين كثيرة تجد نفسك أحد شخوص الرواية وخالقاً لنصوصها ومعايشاً لوقائعها المادية ,ويبلور عبده بركة وجهاً خطيراً للسرديات يتمثل في تشكيله لسرديات رسمية لتاريخ معين ثم سعيها الدائب الى منع سرديات مغايرة من الظهور كما يبلور الصراع ضد هذه السرديات والسعي الى تقويضها,عبده بركة رجلٌ ساحر ولأكون متطرفاً أكثر في قراءاتي لعبد العزيز فاني أكاد أجزم أنه يعرفني معرفة شخصية حقيقية وليست عابرة رغم أنني لا قيته لقاءاً عابراً في القاهرة قد لا يتذكره ,فلقد وجدت نفسي في مخيلة الخندريس أمثل دوري باتقان شديد وبنفس الاسماء التي كانت تمارس الغواية السردية ,أما في الجنقو مسامير الأرض فقد كنت واحداً من (الجنقوجوراي) وبما أنني من القضارف فقد كنت العب دوري كأحد العمال الموسميين التي تذخر بها الرواية.إنني أنحو منحىً مختلفاً حيثما أذهب في قراءتي لرواياته فهو يمتعني بشخوصه الغنية اضافة الى لغته المدهشة التي استطاع أن يطوعها لتخدم الظروف الواقعية,إنه لحد كبير تتشابه لغته مع الروائي الكبير (واسيني الأعرج) حينما قرأت له (شرفات بحر الشمال )و (سيدة المقام ) و (ذاكرة الماء) وجدتها تشابه روايات (عبده بركة) خاصة رماد الماء حيث الشخصيات السرة الموغلة في التخيُّل السردي ,وأُعجبتُ أيّما إعجاب بالطواحين فهي بالنسبة الي أجمل رواية قرأتها في حياتي بعد رائعة باولو كويهلو(الخيميائي)حيث القدسية تشع منها ,وشخصيات من وحي الواقع تشارك في الاستخطاطيات السردية( المختار,محمد أدم,مايا زوكوف,أمين محمد أحمد ,سارة,سابا),تتبطن منظومات (عبده بركة) هنا مجموعة من التصورات والاسس النظرية التي تتأصل في حياتنا وتجاربنا أنها ليست مجرد أعمال أدبية نتذوقها بل هي ثورة حقيقية في العمل الروائي السوداني والعالمي ,حيث تنبع تحليلاتي لهذه الروايات (الجنقو,الطواحين ,العاشق البدوي,مخيلة الخندريس,مسيح دارفور,رماد الماء ,زوج إمرأة الرصاص وابنته الجميلة,امرأة من كمبو كديس,ما يتبقى كل ليلة من الليل) من معطيات مثل القوة,وسلطة الانشاء والنصوص,والتمثيلات ورؤية الآخر وتنميطه ,وقوة النصوص المولدة لذاتها وترابط المعرفة بالقوة,لكن مفاهيم طارئة تقفز لتحتل المكانة المركزية في التحليل,وفي تكوين المنظور الذي الذي يعاين منه الثقافة والتاريخ والادب بالنسبة للمجتمع,وأهمها على الاطلاق قدرة هذه الروايات حسب تحليلي لها على التلاحم بين التاريخ والسرديات, والتكوين الاستيهامي الخالص للمجتمع المتخيل وتشابك هذه المخيلة بالتاريخ والواقع بالسحر,بل إنتفاء إمكانية تحديد الواقع خارج إطار التخيل,استخطاطيات السرد لدى (عبده بركة )حسب قراءتي له هي حكي حكاية يختفي مدلولها الخطير المتخصص الطارئ..السرد في السياق الجديد هو تشكيل عالم متماسك متخيّل تحاك ضمنه صور الذات عن ماضيها , وتندغم فيه أهواء وتحيزات وافتراضات تكتسب طبيعة البديهيات ونزوعات, وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يصوغها الماضي بمتجلياته وخفاياه, وتدخل في هذه الروايات او السرديات بمعنى أدقّ مكونات الدين ,اللغة, والاساطير , والعرق والخبرة الشعبية وكل ماتهتز له جوانب من النفس المتخيلة.عبده بركة استطاع أن يخرج عن التقليد المتوارث في كتابة الروايات, كما يعجبني تمرده الواضح على اللغة ,وحتى لاأُطيل فانني أختم هذه القراءت بما قاله (عبده بركة)في حوار لصحيفة الجزائر الجديدة (انني انحاز لمشروعي الانساني وأكتب لطبقتي احلامها ,والآمها, للفقراء ,المتسولين ,الداعرين, والمثليين, وصانعات الخمور البلدية ,وأولاد الحرام, الجنقو العمال الموسميين ,الطلبة المشاكسين ,للأنبياء الكذبة,لفاعلي الخير من أبناء وبنات وطني ,للحرية) الاراضي المحررة (جبال النوبة) [email protected]