(ينابيع) عندما يخاصم أحدنا الآخر أو مجرد مخالفته الرأي ولو آنياً يقول له: (60 دهية و40 صباح) الدهية معروفة، وكذلك الصباح.. المشكلة كلها في (الرقمين) وسأورد بعض الاجتهادات بحقهما والعلم عند الله، بعض الأقاويل والأسانيد وإن كانت ضعيفة تشير أن السرعة القصوى للسيارات كانت (60) كلم في الساعة ووقتها كانت تعتبر مجازفة ومخيفة ومميتة وقاتلة وتؤلف القصص والحكايات بأن فلاناً يسير ب (واحد ستين) بعد إضافة الكيلو الواحد كنوع من المبالغة.. وتتبع الرقم مفردة (دهية) وهي اللاعودة.. والموت لاحقاً. التفسير الآخر وهو الأرجح حسب فهمي المتواضع وهو أن عمر الإنسان لن يتجاوز الستين إلا بقدر يسير ، أما الغالب فعمر الإنسان اليوم ما بين الستين والسبعين، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ سِتِّينَ إِلَى سَبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ ) رواه الترمذي وغيره، وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وحسنه الألباني رحمه الله في الصحيحة 2/385 . لو حسبنا عمر الإنسان الحقيقي، والذي له ستون سنة، فإننا نجد أنه يضيع من عمره قرابة الخمسة عشر عاماً لا يعاقب عليها، لأنه لم يبلغ الحلم، فنطرح عمره من السنوات التي لم يُعاقب عليها فتكون النتيجة: 60 – 15 = 45 سنة، إذن الباقي من عمر هذا الإنسان خمسة وأربعون عاماً. وإذا كان يقضي في النوم كل يوم وليلة ثمان ساعات، فتصبح عشرون عاماً يستغرقها في النوم، فنطرح العمر المتبقي من سنوات النوم التي لا يُحاسب عليها، لأن القلم مرفوع عنه، فتكون النتيجة: 45 – 20 = 25 سنة يقضيها الإنسان، هي عمره الحقيقي، يُحاسب عليها، إما خيراً، وإما غير ذلك، فما وجد من خير فمن الله وحده، وما وجد غير ذلك فلا يلومن الإنسان إلا نفسه، لأنه اتبع الشيطان والهوى، فكانت العاقبة سيئة وخيمة.. وأيضاً هي نفس النتيجة والنهاية (الدهية) أو الموت. أما بالنسبة ل (40 صباح) ربما الاحتمالات والتأويلات أكبر وأكثر وأقوى لأن ل (40) قصص وقصص أكثر من (ألف ليلة وليلة)، فمثلاً: نمر كثيرا بالرقم 40، فهل يسعنا هذا المرور مثلا دون إمعان النظر في هذه المفارقات الكامنة في (أربعين الميت)؟ و(أربعين الصوم)؟ و(أربعين النفساء) بعد الولادة؟ و(أربعينية الشتاء والصيف) البيئيُّة؟ و(أربعينية النضج وسنّ اليأس)؟ و(عاشر القوم أربعين يوماً)؟ و(أربعين الشبه في الخلق)؟ و(أربعين التنزيل)؟ و(أربعين الحروب) منذ داحس والغبراء من حيث الأمد الزمني؟ و(أربعين صحراء التيه) وضنكها التاريخي المغذِّي للقلق المدمِّر والانتحاري وانعكاسه على الذات والآخر؟ و(أربعين أعمار الدول) وعلاقتها بأعمار الأشخاص بمفهوم ابن خلدون؟. معلوم أن تيه بني إسرائيل استمر (40) سنة، وقد تعرض القرآن الكريم لهذا الموضوع، فرسم صورة القرار الإلهي الذي تلقاه موسى عليه السلام بحق أولئك البشر وبأنهم سيتيهون (40) سنة. (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْض) (المائدة: من الآية26) (40 حرفا). ونرى أيضا أن هذه الصورة ترتبط مع صورة أخرى ارتباطا تاما، بالإضافة إلى ارتباط كل منهما بالفترة الزمنية لهذه المسألة: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى *كُلُوا مِنْ طَيِّبَتِ مَا رَزَقْنَكُمْ) (طه:80 81)، (40 حرفا) إن قصة الأربعين يوما التي أعطاها يونس عليه السلام لقومه مهلة حتى يؤمنوا، هي قصة معروفة، وعندما يصور القرآن هذه المسألة، مسلطا الضوء على مركزها، تكون واحدات التصوير التي ترسم هذه الصورة، متطابقة تماما مع الواحدات الزمنية لتلك الفترة. فقد آمنوا على مدار (40) يوما، وهذا الإيمان هو سبب كشف عذاب الخزي عنهم في الحياة الدنيا: (لَمَّا ءامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا) (يونس: من الآية98) (40 حرفا). أربعون (النفساء) وأربعون (الميت) وهو ارتباط المهد باللحد.. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين النفختين أربعون قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوماً؟ قال أبيت، قالوا أربعون سنة؟ قال أبيت قالوا: أربعون شهراً؟ قال أبيت. ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه، فيه يركّب الخلق، ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل). متفق عليه. نضج (الأربعين) و(سن اليأس الأربعيني)، تبلغ عند الإنسان قمة العطاء أوجها في أربعين عمره أو ربيعه، حيث تحصل المراهقة المتأخرة بعد الأربعين كما يقول المثل: (الولد عند بلوغه والكهل عند فروغه) حيث يزداد الكهل رصانة وحصافة وعقلانية. قال تعالى: (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة). هذه الظاهرة ظاهرة (أربعينات) المرافىء والموانيء البحرية، أو مبدأ (الكرتنة) (Quarantaine)، أو الحجر الصحي، وصلة ذلك بحضن الجراثيم قبل (ترجمتها) إلى أمراض وبائية كالطاعون والهواء الأصفر بكتيرية الإنتماء (Bacterie)، أو طفيلية حيوانية المصدر، مثل طفيلي حمى البرداء المعروفة تجاوزًا باسم (الملاريا)، وذلك قبل اكتشاف التطعيم الواقي والأمصال والعقاقير العلاجية. بالإضافة إلى فترة تناضج (الأربعين يوما) المتمثلة (بالدورة الحياتية) وقفلها خلال هذا الأمد الزمني، عند الكائنات الحيوانية السفلى كدودة الحرير، والنبات القرنيّ (كالفول واللوبيا) والقرعيّ (كالخيار والكوسي) وصلتها بفترة الحضن أو الحمل الجنيني عند الإناث من البشر وأمدها (280) يوما أي حاصل ضرب 40 × 7 = 280 حيث يتمثل تكرار هذا الحيز الزمني (سبع) مرات، والمرور من الأبسط إلى الأكثر تعقيدا!. إن هذه الفترة الزمنية (الأربعون يوما) كانت تشكل الحد الأقصى لبروز المرض الوبائي أو بشكل أدق (ترجمته الفاعلة) بعد أن يكون كامنا في الأجسام الحاضنة له، وبتعبير آخر، انتقاله من حيز القوة إلى حيز الفعل، تماما كالطاقة الكامنة غير المتمظهرة حركيا، ومرد ذلك، هو تأمين التناضج والتكامل للعامل الحياتي الطفيلي في عملية الحضن البيولوجية وأمدها الزمني 40 يوما. أما علاقة (الكرنتينا) أو (الكرتنة) المتناغمة لفظا ومدلولا مع الرقم 40 بأنه كي يتسنى لجرثومة مرضية معينة التمظهر أو (الترجمة التخارجية) للداء المستبطن، فإن ذلك يستلزم بالضرورة فترة زمنية تعرف علميا بدور الحضن (Periode d incubation)، تماما كما تحضن الطيور بيوضها الفاقسة، أو كما تحضن أم الحيوان جنينها المتنامي لاروائه وانمائه وتكامله. وتختلف هذه الفترات باختلاف النوع الجرثومي الملوث. كل ذلك يفسر الأسباب التي كانت تحدو بالسلطات الصحية في المرافىء بحجز المسافرين والماشية مدة 40 يوماً قبل خروجهم من المرافىء إلى المدن والسماح لهم بمخالطة المقيمين فيها ، تلافياً لانتقال الأوبئة. وداء الكلب الناتج من عضة كلب مسعور يترجم المرض بإبادة الخلايا العصبية عند المصاب، وتقضي الأنظمة الصحية الوقائية باحتجاز الحيوان العاض المشتبه به مدة 40 يوما، ومكتشف هذا المرض هو البيولوجي الفرنسي الشهير باستور. الصوم والعدد 40: نأخذ الصوم واشكالياته الأربعينية حيث قال الله تعالى: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر) (الأعراف 142)، وذلك أن موسى عليه السلام نام لياليها وصام نهارها حتى صفت نفسه. ويتماشى هذا القول مع ما روي عن النبي (صلعم) أنه قال: (من أخلص العبادة لله أربعين يوماً فتح الله قلبه، وشرح صدره، وأطلق لسانه بالحكمة ولو كان أعجمياً غلِفًا). من المعلوم أن صيام الفصح أمده أربعون يوما عند المسيحيين، ويحرّم طيلة هذه المدة تناول جميع ألوان الأطعمة البروتينية (اللحوم على أنواعها والبيض)، والدهنية الحيوانية، ويوم عيد الفصح يُفطر على البيض حيث درجت العادة على تلوينه وتزيينه بالأصباغ (ورق اللوز، قشور البصل الأحمر). عقوبة من أتى كاهناً لا تقبل له صلاة أربعين ليلة.. عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: وقت لنا رسول الله (في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة. أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة). أخرجه أبو داود والترمذي ومسلم والنسائي. وقال أبو داود: (وقت لنا) أصح. وقال النسائي: وأكثر من أربعين يوما، وقال مرة (أربعين ليلة). أين كنا وإلى ماذا وصلنا في السودان؟!.. قبل ربع قرن العملة السودانية (جنيه) كانت زي الدهب لا يدانيها ولا يجاريها عملة في العالم أجمع.. البريد والبرق (البوستة التلغراف) التلكس التروماي (التكس الجوي) تخيلوا ليموزين يطير ويحلق بك بين المدن للتأجير لو كنت على عجل من أمرك.. ولا أظن أن تلك الخدمة كانت متاحة في أي دولة على وجه الأرض بما فيها المتقدمة.. الداخليات في المراحل الدنيا والعليا والجامعات، التلميذ والطالب لا يشتري شيئاً، ماكل شارب نايم.. أسرة مع بطاطين صوف مية المية عليها شعار (أس آر).. جبنة كرافت.. صابون.. ظهرة التي تحولت بقدر قادر الآن إلى (نيلة) في (نيلة) دفاتر.. كراسات (كراريس) ما يفرق كتير كلو جمع تكسير.. محبرة مليانة.. ريشة (للكتابة) لا للطيران.. صلصال للرسم.. أدوات الهندسة.. تنوم وتصحى بمواعيد وجرس.. منتهى الضبط والربط.. نظافة اللبس والبدن ويا وليك لو لقو نقطة ولا بقعة حبر في يدك.. في لبسك.. في دفترك وكراسك.. الحكومة كانت أمك وأبوك وأخوك وأختك.. في راحة وعز أكتر من كدا.. الآن بقي في بخل وعدم دراسة.. الكم طغى على الكيف.. مدارس وجامعات بالكوم وتفريخ لدواجن فاسدة.. تكلفة إنشاء المدارس الصغرى كفيلة لعودة الداخليات بنظام المجمعات ومساعدة بل رفع الحمل الثقيل عن كاهل الأسرة المتوسطة والفقيرة وزراعة المساواة بين الدارسين.. صادف هذا البخل عقوق الأبناء وضاعت الطاسة.. ماذا كنا وإلى أين نسير بل نركض؟!. مين اللي عايز يودي السودان في (60 دهية و40 صباح)؟! سلك حديد السودان كان مضرب مثل في الدقة والمواعيد لدرجة أن تضبط الساعات من خلاله.. الدرجات جميعها كانت مريحة.. نظيفة.. يسهل على الأمي معرفتها بالألوان الدالة على كل درجة.. (السناتور) كان يضاهي بل يفوق ما تقدمه الفنادق ذات الخمس نجوم.. النقل النهري للركاب والبضائع كان يجوب في أمن وأمان المدن الجنوبية ناقلاً الخير والخبر.. الري المصري.. الأستاذ الفاضل محمد سعيد جاب الله الكبير سناً ومقاماً زميل عتيق بجريدة الرياض عمل مدققاً بها، يعرف جيداً أحياء بحري كلها الدناقلة.. حلة حمد.. حلة خوجلي، عمل بالسودان في الستينيات الميلادية يحمل انطباعاً ممتازاً عن السودان وأهله وكيف كانوا يتصارعون ويبحثون عن (الواو) ليقع عليهم الاختيار ليفوزوا بين عشرات الدول والمنح.. ابنته المولودة في السودان أصبحت جدة.. بعض المقتنيات الثمينة منها والتراثية والعادية ما زال يحتفظ بها للجودة والذكرى. هل مرض السودان؟!.. هل مات السودان؟! حتى يقولوا: في (60 دهية و40 صباح)؟! أتمنى أن يكون مجرد كلام وبس. حقيقة أستشرت كثيراً وأستفدت أكثر من الأستاذة نادية عبدالوهاب فهي خبيرة وضليعة في التراث والحكم والأمثال واللغة وليست اللهجة النوبية.. آمل وأتمنى منها توثيق هذا الكم الهائل من الرصيد في بنك معلوماتها الثرة، حتى لا تضيع ما تبقى لنا من إرث. محيي الدين حسن محيي الدين [email protected]