أول أمس، استمتعت بأمسية دافئة في رحاب تكريم الإعلامي الرمز والمؤرخ الكبير محمد خير البدوي، أمسية جاءت كأروع ما يكون، تخللها عصف ذهني أكثر من كلمات تقدير وترحيب. قيادات من المجتمع ونخب من الإعلاميين كانت حضورا، وقد بزت نهى عجاج بصوتها الحنون آلات العزف، فلم نستطع التفريق بين صوتها وصوت الكمان. وعلى الرغم من أن المحتفى به لديه الكثير من الآراء القوية ومنها رأيه في الحكومة والتي سبق أن أشار إليها في حواره الضجة مع الإعلامية المميزة الراحلة نادية عثمان مختار لها الرحمة والمغفرة، حيث قال يومها رداً على سؤال لها حول رأيه في الحكومة، قائلاً: (هو إنتو عندكم حكومة إنتو). رغم رأيه هذا، إلا أن تكريمه يوم أمس الأول جاء تحت رعاية اللواء عمر نمر معتمد محلية الخرطوم. وأيضاً، وعلى الرغم من رأيه القاسي في الصحافة السودانية، إلا أن رموز العمل الإعلامي والصحفي كانوا وجوداً واحتفوا به احتفاءً فوق العادة، وقدم الصادق الرزيقي لوحة خطابية بليغة بكلمة ضافية كافية محكمة أنيقة لا تقل أناقة عن ربطة عمامته المميزة. وأذكر أنه حين سأل البدوي عن رأيه في الصحافة السودانية قال إنه لا يقرأ الصحافة السودانية، وإنها كالمنخنقة والموقوذة والنطيحة والمتردية، وما أكل السبع، وهذه لحومها حرام، والصحافة السودانية مثلها، قراءتها وتوزيعها وتمويلها حرام! إن ما وجده الإعلامي محمد الخير البدوي من حفاوة وتقدير وتكريم هو أهل له، وما قام به أهل الصحافة تجاهه هم أيضا أهل له . ومما لفت نظري أيضا في أحاديثه قوله إن ابنته الإعلامية المعروفة في البي بي سي زينب تجيد الإنجليزية والفرنسية والروسية، ولكنها لا تعرف العربية ولا الأدب العربي، وأنه حين سألها لماذا لا تهتم باللغة العربية أجابته: وماذا قدمت لك أنت اللغة العربية؟ استحضرت حينها عبارة شهيرة للبروفيسور عبد الله الطيب حين سُئل عن معرفته باللغات، فقال: أتقنت الإنجليزية والألمانية وشيئاً من العربية. فهل يا ترى تعي زينب هذه العبارة؟ يبقى أنه ومهما اختلفنا في آرائنا مع الأستاذ العلامة محمد الخير البدوي، الذي وصلت شهادته سلباً حد الرموز القومية لإنسان السودان من الأزهري والمحجوب وغيرهم، إلا أنه يظل شاهدا على العصر، يندر الالتقاء بمثل تجاربه وعصارة أفكاره التي اختزلها من عبق التاريخ. ومشاهداته ومواقفه وذكرياته وآراؤه جميعها ينبغي أن توثق على الأقل في فيلم وثائقي يحكي عن الوجه الآخر لسودان لا نعرفه، سودان بحث عنه هو في دار الوثائق البريطانية، ووقتها قال: أنا أثق في الوثائق البريطانية، عشان السودانيين ديل أصلاً ببالغوا.