بدأت الصحافة في السودان صحافة خبرية.. في العام 1903.. حين صدرت أول صحيفة سودانية في السودان.. لكنها أجنبية الملكية.. أجنبية التحرير.. أجنبية القراء.. حتى أن الأستاذ محجوب محمد صالح أبرز مؤرخي الصحافة السودانية.. يتحفظ على تسميتها أول صحيفة سودانية.. بل يفضل اعتبارها أول صحيفة في السودان.. في رأيه.. ورأي كثيرين.. أن أول صحيفة سودانية هي صحيفة حضارة السودان 1919.. وما يعنينا هنا أنها أول صحيفة اهتمت بالرأي.. أي أنه في الوقت الذي اهتمت فيه الصحيفة الأجنبية بالخدمة الخبرية.. اهتمت الصحيفة الوطنية بالرأي.. الحضارة بدأت المزج بين الخبر والرأي في صفحاتها.. ثم لاحقا تمددت مساحات الرأي.. أما الاهتمام بالرأي في الصحافة، فقد بلغ قمته في عقد الثلاثينات من القرن المنصرم.. حقبة صحيفتي الفجر والنهضة.. وهي حقبة الاستعمار الذي كان يسيطر على كل شيء.. وبالضرورة المعلومات.. ولم يستعيد الخبر قيمته وأهميته وتميزه إلا بحلول العام 1945.. حين صدرت صحيفة الرأي العام.. ولا يمكن فصل ذلك عن تداعيات مؤتمر الخريجين وصعود تيار التحرر الوطني.. وبدء تراخي القبضة الاستعمارية. ومنذ ذلك التاريخ، جرت مياه كثيرة تحت جسور الصحافة السودانية.. تأرجحت فيها اهتمامات الصحافة وتنوعت.. ارتفعت وتدهورت.. سمت وانحرفت.. حتى كتب الصحافي الراحل عبدالله عبد السيد في كتيب أصدره منتصف عقد الستين تقريبا.. أن الصحافيين في كل الدنيا يتطورون إلى كُتّاب ومفكرين.. وفي السودان يتطورون إلى تجار وموظفين.. وغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الراحل عبد السيد.. إلا أن الملاحظ أن مسألة الكتاب هذه تحديدا غدت مظهرا للأزمة لا مخرجا للحل.. ومنذ نحو عقد من الزمان يشهد الوسط الصحفي جدلا كثيفا.. حول أوضاع الصحافة والصحفيين.. أو المحررين.. وتجري المقارنات بين دخولهم ودخول الكتاب.. ويحمل البعض على الناشرين بالوقوف خلف هذه الاختلالات.. فهل حقا هذه مسؤولية الناشر.؟ ثمة من يختلف مع هذا الزعم.. ذاهبا لتوصيف الناشر أنه محض منتج لسلعة يحتاج لتسويقها على أوسع نطاق.. فيظل يبحث عن محسنات السلعة.. فيجد ضالته في الكتاب.. الذين باتوا منذ ذلك التاريخ يؤثرون بشكل واضح على حركة توزيع الصحف.. يمكن للبعض إزاء هذا الموقف الاستنتاج بأن القاريء هو المسؤول عن هذا الاختلال.. لماذا.؟ لأنه أصبح يحدد موقفه من كل صحيفة ممن يكتب فيها.. لا بما تقدم من خدمة صحفية.. وقد يدفع البعض بأن هذه القاعدة لا تنطبق على جميع القراء.. لكن حركة توزيع الصحف.. وحركة توزيع الكتاب على هذه الصحف يكاد يرجح أن القاعدة تنطبق على معظم القراء.! ونعود إلى التاريخ.. وإلى السؤال.. إذا كانت صحيفة الرأي وفي العام 1945 قد صدرت معززة من قيمة الخدمة الصحفية القائمة على الأخبار.. وحققت اختراقا كبيرا على حساب صحافة الرأي.. فما الذي حدث.؟ كثيرون لا يفصلون بين الأداء الصحفي.. وبين المشهد السياسي.. وأن الأخير يؤثر مباشرة على أداء الصحافة.. استقرارها وتطورها.. وتطبيق هذا المعيار على صحافة العقد الأخير.. يكشف بجلاء مدى تأثر الصحافة بالقيود الأمنية الناجمة أصلا عن الوضع السياسي المأزوم.. كان جليا أن دوائر السلطة تتحرك بذكاء شديد.. وهي تقيد المعلومات.. وتطلق حق التعبير.. توقف تدفق المعلومات على الصحافة.. وتسمح بتدفق الأعمدة والمقالات.. وبالنتيجة.. تربي قارئا زاهدا في المعلومات.. مشككا فيها إن وجدت.. راغبا في قراءة أعمدة الرأي.. وبالنتيجة أيضا.. بالنسبة للقاريء.. تراجعت مصداقية الصحيفة.. وتأسست محلها مصداقية أخرى.. هي مصداقية الكاتب.. عليه.. إذا أردتم السبب فابحثوا عن (السطات).؟ اليوم التالي