ممارسة الجنس جزءٌ لا يتجزأ من الإحتياجات الاساسية المسكوت عنها للنفس البشرية، ولكن هذه الممارسة في غير إطارها الشرعي أصبحت ترتبط بكثير من المهددات الاجتماعية، والأمنية، والاقتصادية، والصحية التي تؤثر علي كافة مناحي الحياة. ولنا أن نعلم بأن نسبة الإيدز في بعض الدول الإفريقية ساهمت بشكل واضح في إبطاء مؤشرات التنمية، وتدمير الاقتصاديات، وتغيير المكونات الديمغرافية والحيوية لكثير من الشعوب. يتجلي ذلك في بعض الدول الافريقية جنوب الصحراء التي أنخفض فيها متوسط العمر المتوقع للحياة، وضعفت نسبة الشباب من مجموع السكان، وزادت نسبة الفقر والبطالة، وتشردت الكثير من الاسر، وتيتم الاطفال، وتراجع معدل النمو الاقتصادي، وأنخفض الناتج المحلي الاجمالي للفرد. لذلك فالتدخل لعلاج هذه الظاهرة وما يترتب عليها من آثار يستوجب الكثير من التدابير المعقدة، التي يجب أن تستصحب كل تعقيدات النفس البشرية. إشارة للإحصائيات التي نشرتها الشبكة السودانية لمكافحة الإيدز في منتدي حماية المستهلك وتم تداولها في الصحف، و التي تُبين أن هناك 450 ألف عاهرة، و 150 ألف شاذ جنسياً (مثلي) بالسودان. نود أن نثني علي كل الجهود والمبادرات الرسمية والشعبية التي تسعي الي محاربة مرض الإيدز. ولكن من المهم جداً الوقوف علي أثر وأبعاد الترويج الإعلامي بنشر أحصائيات عن عدد العاهرات والشواذ جنسياً، والذي نري أنه قد لا يكون الأسلوب المناسب في مكافحة مرض سلوكي خطيريرتبط بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية و الثقافية كمرض الإيدز. لذلك أودّ أن أتطرق لهذه القضية في بعض النقاط: أولاً: هذه الإحصائية المذكورة هي عبارة عن (عدد) وليست (نسبة) محسوبة من عينة عشوائية تمثل كل السكان. وبالتالي تعتبر إحصائية غير واقعية تماماً، ولا تعبر بأي حال من الأحوال عن حجم المشكلة، وهو ما يُعرف بظاهرة قمة جبل الجليد (the tip of an iceberg ) . حيث أن التقليد المسدل علي طبيعة الممارسة الجنسية في مجتمع محافظ كالسودان يجعل تعداد الفئة الممارسة لهذا السلوك بصورة غير شرعية ضرباً من الخيال. وحتي في البحوث العلمية، عندما يتم إختيار هذه الفئة كمجموعة دراسة، فأنه يتم تجاوز تطبيق القواعد الأحصائية الصارمة لأخذ العينة الاحتمالية (probability sample ) ويُستعاض عنها بطرق أخري لأخذ العينة تعرف بال(purposive) أي ما يعرف بالعينة المقصودة أو العمدية. وبالتالي لا نستطيع أن نعمم نتائج مثل هذه الدراسة علي كل مجتمع الدراسة، فهي تخص فقط المجموعة التي شملتها الدراسة. هذا يعني أن أي نتيجة في أي دراسة تم الوصول الي عينتها بهذا الشكل لا نستطيع أن نعممها علي كل مجتمع (العاهرات) و(الشواذ جنسياً) كما تمت تسميتهم في التقارير. ثانياً: من المعقول جداً أن نصرح بنسب المرض، ومعدلات الاصابة والانتشار في الفئات الاكثر عرضة للخطر، ولكن التناول الإعلامي بهذا الشكل لظاهرة السلوك الجنسي الشاذ يعقد عمليات التدخل لمكافحة مرض الإيدز وبقية الامراض المنقولة جنسياً، وذلك من حيث تعقيد الحصول علي المعلومات اللازمة من هذه الفئات، وصعوبة تقديم التدخلات المعرفية والسلوكية والمجتمعية لحماية المجتمع من المخاطر الصحية. ومن المعلوم أن معظم البرامج الدولية والوطنية العاملة في مجال مكافحة الإيدز بدأت تتعامل بشكل دقيق وحساس مع قضايا الوصمة (stigma)، وفي هذا السياق بدأت تختار المصطلحات بعناية لتسمية بعض الفئات المتعلقة بهذه القضية، فمثلاً يُطلق علي المصابين بفيروس الإيدز ومرض الايدز بال (متعايشين)، كما يُطلق علي ممتهنات البِغاء (prostitutes) أو (العاهرات) كما ورد في التقرير يطلق عليهن (commercial sex workers) أي المشتغلات بتجارة الجنس. وهي كلها محاولات لتقليل الوصمة والعزل، باعتبار أن هذه الفئات هي جزء من المجتمع، ووجودها يجسد الخلل والعلل التي تراكمت في قاع المجتمع، وهم يستحقون الاهتمام و العيش بكرامة كما الآخرين. ثالثاً: هذه الصورة من التعامل مع هذه الفئة ستدفعها للانعزال والغبن الاجتماعي علي المستوي البعيد، وتضعف المبادرات في الوصول اليها بالخدمات والتدخلات الصحية والاجتماعية. وهذا سيشكل قنبلة موقوتة مشحونة بالحقد والكراهية علي بقية أفراد المجتمع. الامر الذي يجعل هذه الفئات تتفنن في أبتكار أساليب وحيل متطورة في إستدراج آخرين لنفس المستنقع، ونشر الرزيلة والعدوي علي أكبر نطاق ممكن. ويظهر هذا جلياً في النوازع النفسية في الانتقام من المجتمع لدي كثير من مرضي الإيدز الذين لم يتلقوا إرشاداً نفسياً كافياً بعد إكتشاف اصابتهم بالمرض. أن السلوك الجنسي الشاذ هو ممارسة متخفية في كثير من الصور الحياتية، والعلاقات الاجتماعية. ومحاولة وصم بعض الفئات بهذا السلوك وعزلها لا يعني خلو بقية الفئات الاخري من هذه الممارسة. والظواهر الشاذة التي تم فضحها مؤخراً في كثير من المؤسسات تبين أن هناك ثمة علاقة مهنية مقدسة قد يمتد اليها هذا السلوك المعيب. لذلك فبدلاً من تعداد العاهرات والشواذ جنسياً، علينا أن نعمل سوياً علي مخاطبة جذورالمشكلة السلوكية، والاجتماعية والاقتصادية. وأن نستهدف كل فئات المجتمع علي السواء في تبني القيم الاجتماعية التي تحفظ حياتهم، وتصون نسلهم، وتعزز صحتهم. وتوفير كل خدمات الإرشاد النفسي والسلوكي، والتدخل العلاجي، والدعم الاجتماعي، والتدبير الاقتصادي والمعيشي الذي يضمن الحياة الكريمة للمعرضين لخطر الانزلاق في الفاحشة، وحمايتهم من المخاطر الصحية والاجتماعية التي تطوق حياتهم. جامعة طوكيو للطب والاسنان. محاضر بجامعة الخرطوم، كلية الصحة العامة [email protected]