نبدأ هذا الاسبوع من خبز الفنادك بالمقولة الحكيمة للإمام الغزالي طيَّب الله ثراه وهو أحد أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري : الرجال أربعة، رجل يدري ويدري أنه يدري – ذلك عالم فاتبعوه ، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري ، فذلك نائم فأيقظوه ، ورجل لا يدري و يدري أنه لا يدري ، فذلك مسترشد فارشدوه .. ورجل لا يدري و لا يدري أنه لا يدري ... فذلك جاهل فارفضوه .. وهنا تكمن الخطورة ،لأنَّ هنالك من ينهي ويأمر ، ويُحرِّم ويُكفِّر وكل هذه المُخرَجات مبنيَّة على مفاهيم خاطئة وأفكار عقيمة واجتهادات معيبة فهو تعوزه الدِّراية والمعرفة وهو أو هم يعتقدون ، بل واثقون من امتلاكهم ناصية الفهم وأن مُخَاطَبيهِم ذوي رؤيا كسيحة وعلم قاصر وتفكير معوَّج ! يقول الفيلسوف الأندلسي الشهير محمد بن أحمد أبو الوليد بن رشد : إذا أردت أن تتحكم في جاهل فعليك أن تُغلِّف كل باطل بغلاف ديني ، ويضيف " إن التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل" وعطفا على ذلك فإنَّ الشخص يمكن أن يفقد حياته بكل سهولة كنتاج طبيعي لمفاهيم قاصرة تعوزها الحكمة وينقصها حسن التصرف بل يسيطر عليها جهلا مدقعا !! بينما الغلاف الخارجي للشخص صاحب ذلك الفكر يبدو وكأنه عالم تسترشد برؤيته الجموع فيقودها زرافاتا ووحدانا وهذا ما نقول عليه بلغة المختبرات نتيجة ايجابية زائفة (( False positive ؛ وللأسف فقد طغت هذه الظاهرة وانتشرت هنا وهناك ونسأل الله الهداية وحسن البصيرة وثاقب الرؤيا ... مرت علينا ذكرى انتفاضة مارس- أبريل وأكاد أجزم يأن الكثيرين لا يتذكرون حتى ذلكم التاريخ ؟ ونخاطب تلك الذكرى قائلين : ضاعت أحلام وُئدت في المنام قبل ما الفجر يبزغ ويكشف لينا الظلام نهبوها العساكر وأدوها تجار الكلام .. وضاع حلم الأماسي وسكت الرباب ... والفرح أصبح سراب .. وتلاشت أحلام الشباب .. البشير أصبح نذير ... الوطن ضاعت ملامحه وانفرط عقد الوئام .. ويا حلييييييل أيام زماااااااان .. طافت بذاكرتي تلكم الأيام وقد كنَّا طلابا بجامعة الخرطوم وقد أتاحت لي الأقدار أن أكون عضوا فاعلا بالتجمع الوطني الديمقراطي حينها بمنطقة سنار الكبرى بحكم رئاستي لرابطة طلاب سنار بجامعة الخرطوم ، وقد كانت فترة خصبة تعلمت فيها الكثير من أدبيات العمل النقابي والسياسي وقد كانت تعتمل وتجيش بصدورنا آمال عراض ويحدونا أفق واسع ممتد ومشرئب لتحقيق تلكم الأحلام .. نحلم بوطن شامخ نبنيه سويا دون إقصاء ونطوِّع المستحيل لنصنع التغيير المطلوب ... ولكن .. ويا لها من لكن ... وُئِدت الانتفاضة حينما جاءنا السياسيون والأحزاب وهم يفتقرون لأبسط معاول النجاح ! رغم أنهم ظلُّوا في المعارضة لأكثر من ستة عشر عاما ، فلم يضعوا خطة عمل ورؤى منهجية واضحة المعالم لانتشال البلاد من وهدتها وسباتها العميق !! وجاءنا مجلس عسكري انتقالي يحمل أسباب موته في طيَّاته ، وكل همه تسليم السلطة كما يقولون وكيفما اتفق حيث لم يدُر بخلدهم تبعات ذلك ، ودونما السعي لحلحلة العديد من العقد المستعصية والبلاد تغلي فيها حركات مسلحة ونقابات ثائرة والكل في حالة فوران وهي لحظات مخاض طبيعية تستدعي وجود حكومة قومية قوية ، فهم انحازوا لثورة الشعب بكافة أطيافه وأصبحوا موضع ثقة لهذه الجموع الثائرة حينها فكان لزاما عليهم الاضطلاع بدور أقوى من الذي اتخذوه ولفترة أطول قليلا (ثلاث سنوات مثلا) واسترجاع هيبة المؤسسات والهيئات وتهيئة المجتمع المدني للمشاركة في الفترة المقبلة بصورة سلسة وانسيابية ووضع قوانين انتخابات بعيدة عن الانحياز لجماعة دون الأخرى ولكن للأسف لم يحدث ذلك !! فجاءت التجربة الحزبية كسيحة تحمل كل أعراض أسقام الماضي الأليم ولم تتعظ من التجارب السابقة والمستجدات على الساحة من وجود أجيال جديدة وأفكار حديثة ممَّا أدى لانهيارها سريعا ؛ فانقلبت عليها إحدى شرائح مكوِّناتها بمسمَّى وطني يحمل في طيَّاته الانتماء لجماعة بعينها ... وهكذا دارت الحياة كما الساقية تدور وجِمَالْ عصارات السمسم معصوبة العينين تدور .., وتلاشت الأحلام الزمان ... اللهمَّ لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربَّنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تُحمِّلنا ما لا طاقة لنا به واعفُ عنَّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .. من عمود خبز الفنادك – صحيفة التغيير ... [email protected]