*(ليست وظيفة الكتابة أو إنتاجها، طمس جُرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة، وجعله في النهاية، لا ينسى..). - آني إرنو- .. كان (بلزاك) يدّعي أنّه قادر على معرفة الأشخاص وقياس موهبتهم ومن ثمّ قراءة مستقبلهم من خلال خطّهم... إلى أن جاءته سيّدة وفي يدها قرطاس بالٍ، أطلعته عليه وطلبت منه أن يتنبّأ بمستقبل صاحب هذا الخطّ الشاحب، أطرق مؤسّس الواقعيّة الروائيّة هنيهة ثمّ صارحها بالحقيقة المرّة: (صاحب هذا الخط يا سيدتي الفاضلة جبان وجاهل ومدّع)!. أجابت السيّدة العجوز بمنتهى ما أوتيت من برودة المسنّين: (اسمح لي أن أصارحك يا عزيزي). هونري (ذو الذّاكرة الضعيفة أنّ صاحب هذا الخط هوّ أنت حينما كنت طفلاً). داهمتني هذه الحادثة وأنا أتصفّح أوراقاً قديمة كان قد حرثها خطّي السوداني المكعوج، شواهد خفت أن تدينني أو أدينها فوجدت أغلبها طازجة الحبر دافئة الورق ولكنّها سميكة الغبار. إليكم بعض ما كتبته دون (روتشة) وبقلب مرتجف وقلم واثق إلى حدّ التهوّر. (مازال القلب في اليسار، قاسياً وشفّافاً... كالألماس ما زلنا نقرأ الفاتحة على أرواح غيفارا وغاندي وأبي ذرالغفاري... ما زلنا نسنّ أقلامنا على صلابة الواقع، نكتب ونعد أنفسنا بالتخلّي عن الخمور الرديئة والتّبوغ الرخيصة وتمجيد الشّقاء... مازلنا نقسم على انتصار الشمس)... أمضي بالتسكّع في دفاتري القديمة كبقّال مفلس، أشيح بوجهي على جمل باهتة وتراكيب عرجاء، أضحك من أحقاد أيديولوجيّة كتبت لأجل انتقامات صغيرة، أخجل من قصائد تشبه القصائد، أتنهّد أمام بقايا وردة يابسة تحرس الصفحات ويجفل ذهني كحصان عربيّ اشتمّ فجأة رائحة الصحراء وأقرأ: (السّقف يدلف، ألف قطرة أخرى وتأتين هذه القدور مثلي تطفح انتظاراً... ولا تأتين السقف يبكي وهذه أوّل نقطة باردة على أنفي وأخرى على أوّل السطر عند (ما) و(لا) تأتين). (صدأ المسمار حين عاتبه الخشب، سكت دهرا واحتجب وعندما اقتلعه الكلاّب ذات خريف قال: اسأل المطرقة يا سيّدي، أنا أيضاً كنت أئن) أوشك أن أمزّق أوراقي ثمّ أتراجع فأجدني كمن يحاول أن يمحو التجاعيد. ما أخطر الكتابة، إنّها القدر تخطّه على جبين الورق ثمّ تتعب في مراده كثعلب يبحث عن ذيله القلم. يا لهذه الإصبع السادسة التي تحتفظ بأصدق بصماتك وأوّل من يتوجّه إليك بالاتهام حين تتنكّر إليها أو تقرّر بترها. ولكن، ثمّة شيء كتبناه حين لم نرد كتابته، فأيّ خبير يمكن أن يقتفي أثره ويخبر عن مستقبل فاعله؟! أقرأ مرّة أخرى وأنا مغمض العينين كالعرّافين: (نحن الذين لا تقبّلهم إلاّ أمواس الحلاقة في الصّباح نحن الذين لا تطرق أبوابهم إلاّ الفواتير والدّائنون نحن الذين تبرّأت منهم قبائلهم عند اللزوم وألسنتهم عند الإهانة وخاصراتهم عند الرقص نحن الذين نموت فلا يختصم من بعدنا الورثة نحن الذين قلنا للزمن كن.. فلم يكن). وكان البوح في هذه الوريقات حَشرجات... من ذاكرة ممزَّقة: لأني أحبك لأني أحُبكِ كسرتُ لتوّي وجهَ القمرْ كسرتُ القوافي الحزينةْ وشعرَ الغزلْ فقلبي الصغيرْ لم يعد صغيراً ولم يعد أيضاً يطيقُ السهرْ لأني أحبكِ تجاوزَ ألقي في مقلتيكِ حدودَ المطرْ وراقصَ في غابات الغوايةِ طيفَكِ حتى ارتعاشِ الشجرْ ثم انتحرْ لأني أحبكِ شربت مساءات عمري الطويلةِ حتى الثملْ وذابَ بعينيكِ نجمُ الصباحِ حتى أَفَلْ لأني أحبكِ مدحتُ النساءَ كثيراً وخنتُ هواكِ كثيراً حتى رمتني إليكِ ريحُ الشمالِ قتيلاً .. إذاً .. فاحملي صولجان الخلافةِ وفضي اشتباكَ الجيوشِ قليلاً لنعقدَ هدنةَ حرب قليلاً وأغفو على راحتيك قليلاً... وكان الهجاء إليك حتى لا تعرفي.. بأننا صبغنا أكفنا بدمائك حناء.: سأهجوكِ بكلِّ حروفِ الهجاءْ يا امْرأةً سرقَتْ كلَّ مدائحي وأعطتني الرثاءْ سأهجوكِ بكلِّ اللغاتْ يا امْرأةً أعادتني جنيناً في رحمِ الحزنِ يشتهي صرخةَ الحياةْ... وكان الهمس، وكنت الريح أنا... والغضب الصاخب أحلامي: خبريني يا غريبةُ عنْ هوانا عما أثملَ العشاقَ من أوجاعنا وسقا الندامى هل كنتِ قاتلتي .. أم كنتُ قاتلكِ أم كان مذبحُ حبِّنا زمناً رمانا .. ما عدتُ أسمعُ من هديرِ النارِ في لغتي سوى همسِ القطا يحكونَ عن قمر رآنا وأنين ناي يطربُ الوقتَ الجريحَ وبوحهُ لهوى سوانا صارحيني بالومى إن تهجعي حيناً إلى أيامنا... عما سقانا .. شوقُ أمسٍ هاجرٍ مازال يلهو في رؤانا هل كنتِ منذ البدءِ بين دفاتري أم أن روحكِ تشربُ من يديْ عشقاً و تزدادُ هياما من أيِّ ذاكرة همتْ كلماتكُ الأولى .. لتملأ الدنيا غراما خبريني يا غريبةُ عن هوانا... هل أواسي النفس أم أعاتبها حين أقول هامساً أمام هذه الأوراق التي ابتلانا فيها قدماء الصينيين والمصريين: الشعر لا ينبغي أن يكتب بقلم في طرفه ممحاة، إنّه زلّة قلم يظنّه صاحبه مؤدّباً، أو فلنقل: إنّه الكتابة بالممحاة. ألم يقل (ميكائيل أنجلو): أنا لا أنحت التمثال بل أبصره داخل الكتلة وأكتفي بأن أقشّر عنه الحجر والرخام. ليت أدب (بلزاك) كان رديئاً فيصدق حدسه وتصحّ استقراءاته لأضع أمامه هذه السّطور ذات الطّعم المالح كتبت في طريق العودة إلى سوتشي بعد أن نفضت يديّ من تراب قبر والدي: (هيّ ذا الطريق اليوم خالية من الأدعية والنذور معبّدة باليتم وإشارات المرور، يتم ينخر يتماً وحرمان يوغل في الحرمان... هي ذا الأمكنة الآن أحزمها بالطريق، بحبل مشيمة ودعاء لم ينقطع إلاّ الآن، بعدك من يحرس هذا العناد، بعدك هل أشتمّك يوماً في العلم ونشيد البلاد؟! سنار التي تشتهي: الإهداء إلى محمد عبد الحي، الذي كان له الحق كل الحق في الرحيل مبكراً.. النار سوداء كعيني اليمامة والرصاص مشرع في كل درب والرياح تهز أشرعة السفينة والرجال هل فاتنا شيء ونحن نحزم أشجار المدينة والغمام هل فاتنا حجر هل فاتنا قمرٌ وغادرنا على عجل.. هل فاتنا وطنٌ! *** النار سوداء كعيني اليمامة والدخان يلهث خلفنا لا وقت للذكرى قد حملت الآن ما تيسر من متاع وغادرت الزمان.. *** ما همنا لو انكسرت خطاه ما همنا لو قتلوه أو صلبوه أو نحروه مثل الشاة يا صاحبي إن الحياة قصيرة والأرض أكبر من أحلامنا والفقد مر.. فلا تسلني عن المدينة قد تركناها وتهنا.. للقادمين مع الرياح *** النار سوداء كعيني اليمامة والمدينة فرَّخت في غفلة أشباه أوديب وأخيلته فتوالدوا في كل الأزقة كالوباء.. أواه يا عارنا كم جعلوك أبيض وكم زرعوك ليحصدوا بطر الخلافة فتجرعوا أحلامهم على موائد الحلفاء مع كأس خروع.. *** النار سوداء كعيني اليمامة والسماء تدوس الأرض من غضب والرعد أسود.. أكلما قالوا هزمنا عضنا الندم العضال.. أم نحن أغراب على أرض غريبة؟ *** يا أيها المجبول من تعب الصحارى يا أيها المسكون بالريح الشقية والمقدود من عطش التراب تنادمت والردى حتى أترع موتك فينا الحياة.. فصرت الحزن المعتق حتى النحيب.. تلوح على الأفق سنار التي تشتهي.. مملكة من غبار ونار.. وتأتي إليك تتضرع بين يديك تهذي لك بأسماء عشاقها وتبقى محاصرة بالهزيمة *** ستضرب كفيك في الأرض تم تنوي الرحيل وتمضي في منافي الأرض تصهل بالألم وتضم جرحك للبراري وتجهش بالصراخ: (لمن ادميت يا مانجلوك يدي ولمن بذلت دماء قلبي).. لغربة تصب القهر في الشريان لكذبة سوداء اسمها النشوة للروح في نفق الرؤى السوداء أنين راعش مذبوح والقلب سفينة جنحت على صخور الحزن وانحطمت هذا هو سفر الهزيمة.. رحلت أسراب القماري وتركتني وحيداً قرب حزني أبحث في إرث كوش ومروي عما يفسرني ويطفئ عطش الصحارى والنخيل.. *** هل كنتِ يا سنار مجداً من دخان.. هل كنتِ زبداً مالحاً حتى يمر النيل من نهديك أم كنت شجراً يابساً حتى يداهمك العراء.. *** آه من وجع وحشي ينمو بين أصابع كفي كالطحلب وأنا أقسم خبزي من فتات المائدة.. زرعوك في قلبي وأعطوا سرنا للرياح الشاردة أتظل يا عار المدينة في دمي كلما مرت بأضلاعي جيوش هولاكو وأطياف من الأمس المجلل بالخيانة أتظل يا عار المدينة ونار اليوم سوداء كعيني اليمامة... الآن صرت أعرف يتم المآذن في ليل غرناطة، غربة التّكبير يودّعه أبو عبد الله الصغير، الآن عرفت من أين أتيت بهذي الدموع أيها الأسمر اليابس النحيل كالوتر.. تموت النخلة في المحيط فيسّاقط الدمع في كسلا جنيّا تموت النخلة في المحيط فتولد الصحارى ويحيا الحزن المبعثر في الحانات وينهض ظلّ يقبّل مترنّحاً كل شرفات ليل مدن الشمال, يفزع القطط والسكارى ويسأل: من لا يعرف منكم مجدافاً غفل أن يحرقه طارق بن زياد فعاد يحجّ مع حكايا الرحّالة ويسأل عن قرينه في شوارع أمدرمان). [email protected]