بقلم: الدكتور نائِل اليعقوبابي *(متهمون نحن بالإرهاب إذا كتبنا عن بقايا وطن.. مخلع.. مفكك ومهترئ أشلاؤه تناثرت أشلاء عن وطن يبحث عن عنوانه.. وأمة ليس لها أسماء!!..). - قباني- .. كانت الأمهات يسلّين صغارهن بالحكايات الشيقة حين لم تكن الكهرباء قد عرفت طريقها إلى تلك القرى الهادئة، وبالطبع لم يكن التلفزيون والهاتف العادي معروفين، أما النت الخليوي ومشتقاتهما من (الواتس أب) و(الإيمو) و(الفيسبوك) و(السكايب) وو و وو.. فلم تكن تخطر حتى في أكثر الخيالات تطرفاً و(شطحاً).. الحكايات كانت ملاعب الخيال الوحيدة، لكن الفسيحة، مع الأغاني (وهي في كثير منها مبنية على حكايات أيضاً) والقليل من القصائد. وما زالت طبخة الحصى التي كنا ننام على حكايتها تحضر على ألسنة الناس، الطبخة التي تبدو شهية لطفل ينتظر عبثاً أن يحمل إليه البخار المتصاعد رائحة زاد، أي زاد. الأطفال الجائعون (يصرعون) الأم مطالبينها بلقمة طعام تسد جوعهم، والأم عاجزة عن أي شيء، أما الأب فهو بعيد، في أقبية الحاكم، أو تحت التراب، أو مهاجر ركب الأمواج بحثاً عن ملاذ.. تجمع الأم بعض الأحجار والحصى من جانب النهر، تضعهم في حلة كبيرة ثم تغمرها بالماء وتضعها على الموقد قائلة لهم: لا تقلقوا يا صغاري، حالما تنضج الطبخة ستتذوقون طعاماً لم تتذوقوا مثله في حياتكم.. هي الأقدار كما تريدها الحكاية التي تنقب عن نهاية سعيدة تجعل أطفال الأحلام أجمل بعد أن يناموا على إيقاعها، الأقدار التي تأتي بلص يبحث عن عشاء لأولاده من بيت على أطراف المدينة المعتمة، بسهوله يدلف إلى المنزل الذي تلوذ به المرأة مع الأطفال الجائعين، يستمع إلى وعود الأم بوجبة شهية للأولاد، فيعد نفسه وأطفاله بها.. يتسلل إلى الموقد، يرفع الغطاء عن القدر فلا يبصر إلا حجراً صلداً وحصاً يعطي صوت قرقرته إحساساً للبطون الصغيرة الخاوية بما سيأتي.... يقف اللص، حين تلمح الأم ظله في العتمة تصاب برعب ينسيها الجوع والأولاد، تتحفز للدفاع عن نفسها وبيتها، لكنه يشير إليها بالصمت قائلاً: سأخرج ولن أتأخر، ثم يعود إليها بلحم وعدس وحلويات وفواكه مما تشتهيه الأنفس تشبه طعام الجنة التي وُعد بها المتّقون، يسرقها من بيوت الموسرين ويعطيها للمرأة وأطفالها لتصبح الطبخة حقيقية، وتصدق وعود الأم لصغارها بوجبة شهية. هي المخيلة الشعبية التي تأبى إلا أن تسعف الحلم بكوة ضوء.. ولا تترك الأطفال ينامون دون أن تأتي النهاية السعيدة، دون أن يشبع الجياع ولو على يد (لص شريف)، ويأمن الخائفون ولو على يد قاطع طريق تستفيق إنسانيته في ذروة المأساة... هي المخيلة نفسها التي تصنع بطلها من القاع الشعبي الفقير: لا من الأمراء والملوك والأثرياء. لا يعرف الهمّ إلا من يكابده، ولا يحسّ بوخز الجوع وألم الفقد إلا من جرّبه وعاشه. المترفون قد يتعاطفون مع ضحايا الجوع للحظات، لكنه تعاطف عابر ربما ينتج فعلاً إيجابياً وربما لا، لكن شركاء الهمّ والمعاناة هم من يحفرون في عمق الظلام مسارب لضوء قادم، لثورة تعيد ترتيب الوطن الظالم الذي ينام على صراخ الفقراء. الثورة؟ ربما هي أكثر لفظة انتهكت مراراً وتكراراً.. انتهكتها انقلابات العسكر التي اغتصبت الحلم والإرادة وغيّبت صوت الناس تاركة المدى لصوتها وصوت غربانها.. انتهكتها لحى وجلابيب بعد أن سرقت ونهبت وقتلت، خرجت من ظلام القرون تريد جرّ التاريخ من أهدابه إلى كهوفها المظلمة، واعتلت صرخات الناس التي خرجت تريد خبزاً نظيفاً وهواء نقياً وشمساً دافئة وحرية لا تحدّ. الثورة التي تخزِّنها طنجرة الحصى، ستخرج يوماً من قمقمها، حين يطوف المدى بالفقراء، بالأنبياء الصغار، ستكتب اسمها أخيراً على جبين التاريخ.. هي التي ستعبر بالناس والبلاد إلى آفاق أجمل، تبدو بعيدة! لعلّها قريبة بقدر ما تبدو بعيدة. لعلّها هنا الآن خلف كل هذا الدخان والخرائب والحرائق السوداء. [email protected]