بالصور.. الفريق أول ركن ياسر العطا يستقبل الأستاذ أبو عركي البخيت    عبر تسجيل صوتي.. شاهد عيان بالدعم السريع يكشف التفاصيل الكاملة للحظة مقتل الشهيد محمد صديق بمصفاة الجيلي ويؤكد: (هذا ما حدث للشهيد بعد ضربه بالكف على يد أحد الجنود)    شاهد بالفيديو.. لاعب سوداني يستعرض مهاراته العالية في كرة القدم أمام إحدى إشارات المرور بالقاهرة ويجذب أنظار المارة وأصحاب السيارات    قال ديمقراطية قال!!!    اعلامي تونسي يرشح الترجي للتتويج بالأميرة السمراء    عبر تسجيل صوتي.. شاهد عيان بالدعم السريع يكشف التفاصيل الكاملة للحظة مقتل الشهيد محمد صديق بمصفاة الجيلي ويؤكد: (هذا ما حدث للشهيد بعد ضربه بالكف على يد أحد الجنود)    البرهان يطلع على آداء السلطة القضائية    بالفيديو.. شاهد الفرحة العارمة لسكان حي الحاج يوسف بمدينة بحري بعودة التيار الكهربائي بعد فترة طويلة من الانقطاع    سعر الدولار في السودان اليوم الإثنين 20 مايو 2024 .. السوق الموازي    سعر الجنيه المصري مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    والى ولاية الجزيرة يتفقد قسم شرطة الكريمت    الحقيقة تُحزن    علي باقري يتولى مهام وزير الخارجية في إيران    موعد تشييع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه    البرهان ينعي وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته ومرافقيه إثر تحطم مروحية    شاهد بالفيديو هدف الزمالك المصري "بطل الكونفدرالية" في مرمى نهضة بركان المغربي    مانشستر سيتي يدخل التاريخ بإحرازه لقب البريميرليغ للمرة الرابعة تواليا    إنطلاق العام الدراسي بغرب كردفان وإلتزام الوالي بدفع إستحقاقات المعلمين    (باي .. باي… ياترجاوية والاهلي بطل متوج)    الجنرال في ورطة    الإمام الطيب: الأزهر متضامن مع طهران.. وأدعو الله أن يحيط الرئيس الإيراني ومرافقيه بحفظه    "علامة استفهام".. تعليق مهم ل أديب على سقوط مروحية الرئيس الإيراني    إخضاع الملك سلمان ل"برنامج علاجي"    السودان ولبنان وسوريا.. صراعات وأزمات إنسانية مُهملة بسبب الحرب فى غزة    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    عبد الواحد، سافر إلى نيروبي عشان يصرف شيك من مليشيا حميدتي    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دخول السودان – من كتاب "الجندي الأسكتلندي والإمبراطورية، 1854 – 1902م"

Entering Sudan - From the book: "The Scottish Soldier and Empire, 1854 – 190
إيدوارد سبيرس Edward M. Spiers
تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما ورد في فصل بعنوان "دخول السودان" في كتاب صدر في عام 2006م عن دار نشر جامعة أدنبرا، بعنوان "الجندي الأسكتلندي والإمبراطورية، 1854 – 1902م" للكاتب الأسكتلندي إيدوارد سبيريس والذي يعمل أستاذا للدراسات الاستراتيجية بجامعة ليدز بإنجلترا. ونشر المؤلف عددا كبيرا من المقالات والكتب منها "تاريخ الأسلحة الكيميائية والبيولوجية" و"أسلحة الدمار الشامل" وغيرها.
المترجم
_____ _______ ______ ______ ________
كان احتلال مصر، بصورة مؤقتة، يكفي للحفاظ على النظام والأمن فيها، ويؤمن قناة السويس. ولكنه كان يعني أيضا التصدي للأزمة التي وقعت في السودان وهو تحت حكم خديوي مصر، والذي كان يحكمه باسم الخلافة العثمانية. فعند ظهور محمد أحمد (المهدي المنتظر) وثورته من أجل إصلاح الدين والقضاء على الكفار حاول المصريون هزيمته باستخدام جيوش مديري الأقاليم. غير أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل الذريع، فأرسل الخديوي جيشا مكونا من 11000 فردا بقيادة العقيد المتقاعد من جيش الهند وليام هكس باشا. غير أن المهدي وجنوده قضوا على ذلك الجيش في 5/11/1883م في شيكان بالقرب من الأبيض، ولم ينج من جنود وضباط هكس إلا مئات قليلة. وبذا شكل المهدي تهديدا خطيرا لمدن أخرى منها الخرطوم، وربما لمصر أيضا. وذلك خطر لا تستطيع بريطانيا بالتأكيد تجاهله. وشاركت الكتائب الأسكتلندية في معركتين من المعارك الثلاثة التي أعقبت تلك المواجهة، فكسبت بذلك مزيدا من الاستحسان، وفي بعض الأحيان بعض العتاب والخلاف والجدال. وكان الوجود البارز لهؤلاء الجنود الأسكتلنديين نتيجة لمبادرات وزارية أثارت مناقشات عميقة بين الأحزاب البريطانية، وولدت صراعات حادة في أوساط "الأسكتلنديين الأحرار" حول أولويات وممارسات الامبريالية الليبرالية.
وقررت حكومة جلاديستون في البداية إخلاء كل الحاميات المتبقية في السودان والمنتشرة في كل أصقاعه المترامية الأطراف، ومعها الآلاف من المدنيين. وكانت تلك مهمة هائلة وعسيرة. وهنا تبنت صحيفة Pall Mall Gazette الواسعة النفوذ الدعوة الجماهيرية لاستدعاء الجنرال "الصيني" شارلس غردون للخرطوم. ولذا قام أربعة من الوزراء بمقابلة غردون في يوم 18/1/ 1884م وأقنعوه بالذهاب للخرطوم ودراسة الأحوال وكتابة تقرير عنها (وصل غردون إلى الخرطوم في 18/2/1884م. المترجم). ووافقت كل الأطراف السياسية الأسكتلندية من محافظين وليبراليين وغيرهم على ذلك القرار، وذلك لخبرة غردون السابقة في المنطقة، ولمعرفته الدقيقة بمناطقها المختلفة. وكتبت الصحف في أخبارها وتعليقاتها وأعمدتها بأدنبرا وغلاسكو ودنديي وغيرها من المدن الأسكتلندية مرحبة بعودة غردون للسودان، وذكرت قرائها بمآثره في خدمة بلاده في مختلف الأقطار الأجنبية، وبأنه شخصية تجد كل الاحترام في أسكوتلندا لأنه "جندي مسيحي" و"رجل موثوق" و"صاحب طاقة غير عادية لا تنضب". ورافق غردون في رحلته للسودان فرانك بوور محرر "التايمز"، والذي ظل يرسل تقاريره لصحيفته حتى تم قطع خط التلغراف من الخرطوم في يوم 12 مارس، فلجأ إلى تهريب تقاريره بالبر من المدينة المحاصرة.
ورغم انقطاع الأخبار الواردة من الخرطوم بالأسابيع الطويلة، فقد ظلت الصحافة الأسكتلندية، مثلها مثل الصحافة الإنجليزية، منبهرة ومسحورة بالجاذبية الدينية التي حظيت بها حركة محمد أحمد المهدي، وطفقوا يتناولون منشوراته، ويكتبون عن مساعده في شرق البلاد عثمان دقنة، وعن خطابه للأدميرال سير وليام هويت في سواكن. وكان عثمان دقنة قد عبر للأدميرال في تلك الرسالة عن رفض المهدي للرشاوى، وعن أنه لن يقوم أيضا بترك الكفار سادرين في غيهم وكفرهم، وأن المهدي ليس له غير السيف للكفار، وبه سيقوم بالقضاء عليهم قضاءً مبرما. وأتفق الصحفيون في إنجلترا واسكتلندا من الليبراليين والمحافظين على تصنيف المهدي كمتعصب ديني، وأن أتباعه أكثر ولعا بالحرب بمئات المرات من المصريين.
وكان الوضع بشرق السودان، خاصة سواكن، مصدر قلق للبريطانيين بسبب أهمية ذلك الميناء وبقية الموانئ على شواطئ البحر الأحمر، خاصة بعد مقتل العشرات من جنود حامية سواكن. وكتبت الصحافة البريطانية معبرة عن "الاشفاق على النساء والأطفال في سواكن وهم يبكون وينتحبون". وأضطر رئيس الوزراء جلاديستون لإرسال مدد من طوكر لإنقاذ حامية سواكن. ورحبت الصحف الأسكتلندية (مثل Glasgow News) بذلك الاعتراف المتأخر للحكومة البريطانية بمسئوليتها عقب فضيحتها وإذلالها في سواكن، وبمشاركة كثير من الجنود الأسكتلنديين في معارك الشرق ضد عثمان دقنة.
وواصلت الصحافة الأسكتلندية حملتها لإنقاذ غردون، خاصة وأن جنود تلك الحملة كان بها عدد كبير من الأسكتلنديين. ولجأ جلاديستون إلى التأخير والتسويف والتعتيم في إرسال حملة إنقاذ غردون. وحاول تطمين المناصرين لإرسال حملة انقاذ لغردون بأن الرجل بخير في الخرطوم، وبأنه لم يطلب من أحد أن يرسل حملة لإنقاذه من المهدي، بل ووصف السودانيين بأنهم "شعب يسعى لنيل حريته المستحقة". ولكن بعد أن استولى المهدويون على بربر في شهر مايو، وبعد أن أطبق المهدي وجنوده حصارهم على الخرطوم، ورفض غردون لمغادرة الخرطوم، رضخ جلاديستون أخيرا ووافق على إرسال حملة لإنقاذ غردون.
وتقرر أن تقوم الحملة والتي كانت تحت قيادة اللواء قارنت وولسلي بالوصول لغردون بالبواخر عبر النيل، وليس عن سلك طريق الصحراء من سواكن إلى بربر، وهو الطريق الأقصر مسافة، وذلك للنجاح الذي كان قد حققه في رحلة سابقة في النهر الأحمر بالصين وفيتنام في 1870م. وبالفعل قام اللواء وولسلي بتجهيز 800 مركب لتحمل جنوده (12 فردا في كل مركب) لمسافة 1650 ميلا من القاهرة إلى الخرطوم. وطلب اللواء مساعدة 386 من البحارة الكنديين (يطلق عليهم اسم فواجيرز)، فوافقت الحكومة الكندية على اشتراكهم شريطة أن يأتوا كمتطوعين، وأن تتولى الحكومة البريطانية دفع مرتباتهم. وجلب اللواء وولسلي أيضا 300 من رجال الكرومن Kroomen من ليبيريا بغرب أفريقيا لحمل الأمتعة والعتاد عبر الشلالات. وخطط وولسلي لنقل جنوده بالقطار مسافة 229 ميلا إلى أسيوط، ومنها بالبواخر وبالبوارج إلى وادي حلفا. ثم قرر أن تسحب المراكب عير الشلال الثاني بالقرب من صرص، وتبحر إلى كورتي في رفقة قوات محمولة وتنقل على الشاطئين. وفيما بعد قرر اللواء أن يبعث برتل من الجنود على ظهور الجمال عبر صحراء بيوضة إلى المتمة لتلتقي ببواخر غردون، بينما يقوم رتل آخر بالسير بالبواخر على النيل ليتلقي بالرتل الآخر في المتمة.
وعلى الرغم من أن بعض الصحف الأسكتلندية بعثت ببعض المراسلين الحربيين ليرافقوا تلك الحملة، إلا أن أحد مراسلي الصحيفة الأسكتلندية Glasgow News عبر عن عدم رضائه من عدد الصحافيين المرافقين لتلك الحملة، والذي انعكس بدوره عن قلة الأخبار الواردة من غردون المحاصر بالخرطوم، وعن عدم حدوث اشتباكات حتى نهاية ذلك العام. وكانت رسالة غردون السرية الأخيرة والمؤرخة يوم 13/12/ 1884م، والتي نشرت في لندن يوم 2/1/1885م قد أكدت أن الخرطوم "بخير". وربما كان غردون يقصد بذلك خداع من يعترض تلك الرسالة من "الأعداء" كتحذير لجنود حملة الإنقاذ ليعجلوا بالقدوم للخرطوم! وزاد الأمر تعقيدا مجابهة رتلي حملة الإنقاذ لمقاومة عنيفة من مناصري المهدي في معركتي أبو طليح/ كليه Abu Klea (16 – 18 /1/ 1885م) وأبو كرو Abu Kru، وكان النصر فيهما حليف جنود الحملة الإنقاذية رغم تكبدها خسائر فادحة. وخسر اثنان من المراسلين الحربيين أرواحهما في المعركتين ولكن بعد أن أفلحا في إرسال تقريرين عن سير الحملة.
وأحتفظ بعض الجنود الأسكتلنديين بمذكرات وبعثوا لأهاليهم برسائل عن أحداث تلك الحملة، تصف المصاعب والمتاعب التي لاقتهم في غضون أيامها. غير أنه لم تجد إلا قلة من تلك الرسائل والمذكرات طريقها للنشر في الصحف، ربما بسبب تأخير وصولها، أو لأن مضمونها كان يفتقد لقصص الوطنية والبسالة أمام الأعداء التي كانت الصحف تطمع في نشرها. وكان أحد هؤلاء الجنود قد كتب سلسلة من الخطابات الصريحة (وهي محفوظة الآن في أرشيف أحد أقسام الجيش) عن تلك الحملة، وأورد في إحدى تلك الرسائل أن الجنود كانوا قد غادروا القاهرة وهم في "حالة مزرية"، إذ كان بعضهم في حال سكر شديد لا يستطيع الواحد منهم معه الوقوف على قدميه، وطفق بعضهم يسبون المارة بأقذع السباب مما أضطر قائدهم لحبسهم. ورغم كل تلك الأحداث فقد قضى ذلك الفوج أيام رحلته إلى وادي حلفا الاثني عشر في يسر وراحة رغم أن طعامهم في غضونها لم يتعد الخبز الجاف واللحم المحفوظ. ووصف بعضهم المناظر الغريبة عليهم التي أعجبوا بها، والأثار في جزيرة فيلة وطيبة والأقصر، وزيارة قائدهم لهم من أجل رفع الروح المعنوية، وكيف أن الجنود كانوا يمزحون مع من يجدونه من الأهالي على شاطئ النيل. وغدت المسيرة الطويلة جنوبا، والعمل الشاق في المراكب وجر حمولتها الثقيلة تزداد صعوبة مع مرور الأيام. وسجل أحد الجنود في مذكراته عن الإرهاق الشديد الذي أصابه من العمل وعن جرح وتشقق يديه وقدميه، وخوضه في المياه إلى وسطه في غالب ساعات النهار عند عبور مناطق صخرية في منتصف النيل. ولم تسجل بحملة إنقاذ غردون إلا حالات غرق قليلة (كان من ضحاياها الرائد نيكولاس بروفي) مما يدل على جودة صناعة المراكب التي استخدمها البريطانيون. ولم يحدث أي وباء في أوساط الجنود غير تفشي القمل وبعض حالات داء الأسقربوط (نقص فيتامين ج).
ولزيادة حماسة الجند، أمر قائد الحملة اللواء وولسلي بمنح رجال المركب الذي يصل أولا إلى الدبة مبلغ مائة جنيه إسترليني. ولم يحالف الحظ الجنود الأسكتلنديين في ذلك السباق، بل فاز فيه الإيرلنديون. واستمر التنافس بين الجنود الأسكتلنديين والإيرلنديين في المسيرة عبر الصحراء، ولم ينته ذلك التنافس حتى بلغتهما أنباء متضاربة عن السقوط "المفاجئ" و"غير المتوقع" للخرطوم يوم 26/1/ 1885م.
وسادت أسكوتلندا – مثلها مثل أنحاء بريطانيا الأخرى – مشاعر الغم والحزن العميق لمقتل غردون، وتبارى الكتاب والشعراء والصحافيون في رثاء الرجل والكتابة عن ذلك "النبأ الكارثي" و"الضربة الموجعة لبريطانيا" و"الحزن الذي غمر كل بريطاني" و"سقوط البطل". وسجل أكثر من كتاب أسكتلندي عن الرمز الديني الذي كان يمثله غردون، وعن أنه "جندي بروتستانتي عظيم" و"جندي مسيحي شجاع" و"شهيد مسيحي". ووجد الليبراليون الأسكتلنديون العذر للحكومة في تأخيرها لإنقاذ غردون بدعوى أن التوقيت لا أهمية له، فالخيانة قد تحدث في أي وقت من الأوقات.
وفي وسط كل مشاعر الحزن تلك، صار لاسم غردون (خاصة في مقاطعة أبردين) جاذبية خاصة، وصار اسما شائعا للمواليد في تلك الأيام رغم مشاعر المذلة والمهانة التي كان يشعر بها الجميع من مقتله على أيدي "الدراويش". وطالب محرر Glasgow News بالانتقام من قتلة غردون وتحطيم قوتهم وإعادة احتلال الخرطوم. غير أن بعض الليبراليين الأسكتلنديين لم يكن متحمسا للقيام بأي عمليات عسكرية في السودان لاحتلال أرض "قفر عديمة المياه وقليلة الأشجار". ولكن كان هنالك كثير من الأسكتلنديين ممن يؤيدون إرسال اللواء قارنت وولسلي لتحطيم قوات المهدية، وأيضا إرسال حملة أخرى لشرق السودان (دون إرسال جنود أسكتلنديين) تحت قيادة جراهام.
وبغض النظر عن رأيهم في السياسة، فقد غمر الأسكتلنديون الفرح الشديد بانتصار وحيد ل "رتل النيل" على جنود المهدية في معركة كربيكان (يوم 10/2/1885م). وعبرت صحيفة في دنديي عن الحاجة لمثل تلك "الأنباء السعيدة" بعد سقوط الخرطوم المذل. وفي تلك المعركة استخدم الجيش البريطاني، ولأول مرة، سلاح الهجانة مستعملا، ولأول مرة كذلك، بنادق ريمنتقون في قتل كل جنود المهدي، بينما خسر ستين من جنوده وضابط واحد.
ولا ريب أن الصحافة الأسكتلندية كانت قد بالغت كثيرا في تمجيد الانتصار في معركة كربيكان بعد نبأ مقتل غردون وسقوط الخرطوم، وضخمت من أهمية تلك المعركة والتي وصفتها وصفا "احتفاليا" وردت فيه سطور عن قتال الجنود (الأسكتلنديين) لأعدائهم وهم في تنوراتهم التقليدية (kilts)، بينما كان صفير الطلقات النارية يختلط بموسيقى القرب.
وسرعان ما تبخر العزاء الذي وجده الأسكتلنديون في انتصار كربيكان بعد أن سحبت "رتل النيل" بعد انسحاب "رتل الصحراء". فقد قررت الحكومة البريطانية الليبرالية الانسحاب من السودان، آخذة في الاعتبار تجربة التدخل الروسي في أفغانستان في ذلك الوقت.
ورغم وفاة المهدي (ربما بسبب مرض التايفوس) في يونيو من عام 1885م، إلا أن من خلفه ظل يشكل تهديدا للجيش المصري في سواكن ولمصر أيضا. ولما كان الجيش المصري بحاجة ماسة للتدريب، لذا كان من اللازم أن يتدخل الجيش البريطاني. وظلت بعض الفرق البريطانية موجودة لعشرة أشهر في كورسكو بشمال السودان بعد الانسحاب (الرسمي) لحملة الإنقاذ. ولم يجد جنود تلك الفرقة شيئا تفعله في تلك الشهور سوى بناء مساكن من الطين اللبن، وممارسة الرياضة، وخلق علاقات ودية مع الأهالي، والذين كانوا يطربون لموسيقى القرب الأسكتلندية. ولم تغادر تلك الفرقة كورسكو إلا في أكتوبر 1885م لقلعة الكشح، والتي تبعد نحو 87 ميلا شمال وادي حلفا.
وفي بدايات شهر ديسمبر من عام 1885م أرسل خليفة المهدي نحو 6000 رجلا لمهاجمة تلك القلعة، غير أن الفرقة الأسكتلندية، وبعون من الفرقة السودانية معها، صدت ذلك الهجوم بنجاح نوهت به الصحف الأسكتلندية. غير أن ذلك الانتصار لم يثر ضجة إعلامية كبيرة بسبب هجر خليفة المهدي لخططه لغزو مصر.
ومن ناحية سياسية بحتة يعد الكثيرون أن فشل حملة إنقاذ غردون قد أثار بلا ريب الكثير من المشاعر في اسكتلندا (وجنوب بريطانيا أيضا). فقد تسبب ذلك الفشل في إضعاف الحكومة. ورغم غضب الأسكتلنديون المحافظون مما جرى من سقوط الخرطوم ومقتل غردون إلا أنهم وجدوا لكل ذلك احتمالات صلات مربحة بين "الإمبريالية" بصورة عامة وبين السياسة المحلية. فقد كانت "الوحدة الامبريالية" والوصول للأسواق الخارجية مصدر رزق وفير لرجال الأعمال الأسكتلنديين (خاصة في غلاسكو) من قديم. وكانت تلك "الوحدة الإمبريالية" هي مصدر رفضهم للدعوة لاستقلال اسكتلندا عن باقي الإمبراطورية.
لقد أثبتت حملة إنقاذ غردون تلك أن "شغف ومشاعر الإمبريالية imperialist passions " بمقدورها أن ترن في أرجاء اسكتلندا، وأثبتت أيضا أن بسالة الجنود الأسكتلنديين لا تزال تجتذب الكثير من الاهتمام، وتثير النقاش في دوائر الأحزاب السياسية في اسكتلندا حول الدور الإمبريالي الذي لعبه الأسكتلنديون في ذلك المجال.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.