من وحي زيارة اوباما الي افريقيا... بعد نحو ثمانية وعشرين عاما من اخر زيارة له الي كينيا، عاد الرئيس الأميركي باراك اوباما الي موطن والده مزهوا بما حققه من إنجاز هو الاول من نوعه وهو وصوله الي سدة الحكم في أقوي بلد في العالم. عاد اوباما الي كينيا ولكنها عودة ليست كسابقتها قبل ثمانية وعشرين عاما، عندما جاء حينها لزيارة جدته المرحة، ذات الابتسامة الدائمة، حبوبة سارة اوباما، وأخته المثقفة أوما اوباما. انها زيارة اختلطت فيها هذه المرة مشاعر العودة الي الجذور والحنين الي ارض الاجداد، بحسابات السياسة. لقد استقبل عشرات الآف الكينيين الرئيس اوباما بصفته رئيساً للولايات المتحدة الاميريكية ولكن مشاعرهم كانت تحمل إحساسا وطابعا مختلفا تماماً عن سابقه. لقد استقبل الكينيون ابنهم واخاهم اوباما الابن بصفته ابن البلد العائد اليهم بعد أكثر من عقدين من الزمان. جاءهم في المرة الأولي شابا يافعا ما كان احدا ليعرفه او يلقي له بالا، فاقلته اخته من المطار بسيارتها الفلكسفاجن الي بيت جدته المتواضع. جاء هذه المرة علي متن الأير فورس وان، الطائرة المخصصة للرئيس الأميركي، ليجد اخته وجدته والرئيس الكيني الشاب أوهورو كينياتا من بين الآلاف الذين اصطفوا في المطار لاستقباله، فحمل اخته هذه المرة علي متن عربته الرئاسية الكاديلاك الي مقر إقامته في نيروبي. عشرات آلاف الكينيين الذين ضاقت بهم طرقات نيروبي ودموعهم منهمرة، حرصوا علي مصافحة اوباما برغم الإجراءات الأمنية الصارمة التي فرضها الحرس الخاص. الا ان اوباما كعادته لم يكن يأبه لتعليمات حراسته فصافحهم وعانقهم ورقص معهم ولم يشعرهم أبدا انه يختلف عنهم برغم مكانته التي قد تفرض عليه بعض الجدية والالتزام. كان مَرَحا وصريحا معهم في ان. قال لهم " كينيا في مفترق طرق" وإذا لم تجلسوا لحل قضاياكم فانه لا احد سيفعل ذلك نيابة عَنكُم. لا انا ولا غيري. أراد ان يقول لهم انه واحد منهم ولكن عندما يتعلق الامر بالسياسة" فلكل منا شانه". مراسم استقبال الرئيس اوباما كانت مختلفة ويبدو ان لجنة الاستقبال ارادت ذلك. مبعث الإلهام و الاختلاف هو انها اختارت الطفلة اليتيمة، جوان وامايثا لتهدي الرئيس اوباما ورود المحبة والصداقة، لحظة نزوله من الطائرة الرئاسية. لقد كان لهذا الامر تأثير كبير علي كل من شاهد تلكم اللحظة المليئة بالمشاعر الانسانية الدافقة. الرئيس اوباما وهو يعانق الطفلة اليتيمة جوان ويتحدث معها لأكثر من دقيقة وياخذ معها صورا تذكارية، كانت لحظة نادرة جدا، جسدت وصية الرسول الكريم وهو يحثنا علي الرفق باليتامي والفقراء والمساكين، وإحساسهم بأنهم مهمون ايضا كغيرهم من فئات المجتمع الآخري. أهمية هذا الامر هو ان المسلمين أنفسهم يغضون الطرف عن هذه المعان السامية عندما يتعلق الامر بالتشريفات واللحظات المهمة كاستقبال مسؤول رفيع او افتتاح مؤسسة حكومية او نحو ذلك. السؤال هو لماذا اختارت لجنة الاستقبال الطفلة اليتيمة الفقيرة البائسة المغمورة جوان لتقوم بهذا الدور؟ اما كان من الاجدي ان تختار طفلة من علياء القوم لتقوم بهذا الدور؟ كلا. ففي كينيا وغيرها من المجتمعات التي تقدر قيمة الانسانية والإنسان، ليس هناك فرق بين إنسان وانسان الا بقدر ما يقدمه لبلده من نفع. قبل أسابيع عديدة، شغل الصحفي، الهندي عز الدين، الرأي العام السوداني، عندما سخر من اختيار شباب مبادرة شارع الحوادث الخالة قسمة لتقص شريط افتتاح غرفة للإنعاش باحدي المستشفيات في امدرمان. رفض الهندي لذلك الامر وبحسب تفسيره وتبريره، هو ان الامر كان يفترض ان يوكل لمن هو ارفع مقاما وتراتبية من مجرد "ست شاي" لا تفقه شيئا في مسائل البروتوكلات والوجاهات. لقد استفز هذا بطبيعة الحال كل إنسان ذو ضمير وقامت الدنيا ولم تقعد وصار الهندي مثار الانتقاد والسب واللعن والسخرية من كل فئات المجتمع السوداني. السلطات في كينيا ربما ارادت ان توصل للهندي رسالة في الامر، ولكن علي طريقتها، وهي تختار الطفلة جوان وامايثا لمهمة يتمناها الكل لابنته. كان بإمكان الرئيس كينياتا او اي من المسؤلين الحكوميين الآخرين ان يختار ابنته او ابنة احد أقربائه للقيام بهذا الدور الذي يراه البعض انه لا يليق الا باصحاب الوجاهات والنفوذ والسلطة. ولكن الكينيين كانوا اكثر جرأة عندما حطموا هذه القيود الزائفة التي تحط من قدر وكرامة الانسان. اذ لا فرق بين رئيس او عامل نظافة او طفلة يتيمة فلكل شانه ومكانه، وليس هناك انسان مهم وآخر عادي. اذ ان الانسانية توحدنا جميعا ولطالما انت إنسان فأنت بطبيعة الحال مهم. الانسانية اعتقد انها كافية جدا لتصفي لكل شخص لقب "مهم". فأنا وانت مهم والكل مهم. انه سقوط مدو لتراتبية الهندي عز الدين ولكنها جاءت هذه المرة من خارج الحدود. لقد جاءت من اخوتنا الكينيين. رحم الكينيين ووفقهم لبناء بلدهم. [email protected]