لا احد يدرك متي تخرج الشيخ محمد عيسي عبد الرازق سوار الدهب شيخ خلوتنا من الازهر الشريف ولكن لتدرك حقيقة هذا العمر المديد تجد ان الرجل قد درس اجدادنا ودرس بعدنا تقريبا ثلاثه اجيال حتي وفاته لم يغيب عن التدريس في الخلوة يوما واحدا وتاريخيا قيل لنا ان خلوته كانت تدرس القران وعلوم الرياضيات وقواعد اللغة العربية والنحو علي السبورة الي جانب علم الخط العربي ولسوء حظنا ورثناه عن اخواننا الذين سبقونا وقد كف بصره وابيضت عيناه من الحزن علي فقده احدي اخواته وهو كظيم وذلك في احد مشاويرة بين دنقلا والقدار وتنقسي الجزيرة مكان استقراره واسرته وكان ما يبهرنا انه يكتب لنا الايه القرانية باصبعه السبابه علي الرمل بخط يفوق المطبعه جمالا واناقه وكأن الحروف تتكلم واغرب من ذلك كان يضع النقاط علي الحروف بصورة مدهشه في مواضعها فوق او تحت بعناية فائقه ولا يطمس علي كلمه فوق الاخري وكنا حين نعرض عليه الالواح فيها هدي ونور كتابة كان يفرز الخطوط فيقول يا فلان خطك قبيح لانك تكتب تحت السطر ويا فلان خطك جميل لانك تكتب فوق السطور واغرب من ذلك نمسح الالواح ويسطرها لنا بنواة البلح بصورة رائعة ومدهشه بشكل خطوط متوازية عز نظير حتي لدي الذين يبصرون وكنا نقرأ سويا كل حسب السورة التي هو فيها ولفرط دهشتنا بين كل هذه الاصوات كان فجأة يوقفنا ويقول يا فلان ا(انت ما حافظ تفتح وتقفل خشمك ساكت ) وحين ترد بانك حافظ يسكتنا ليسمعك فيكتشف صحة قوله بل اكثر من ذلك كان يجعل بين فترة واخري حصة للخط العربي (رقعة ونسخ وكوفي ..الخ ) وكان يفرز الخطوط باحساس غريب ويستحيل ان تتلاعب عليه بان تخط في اللوح عكس مراده وكان يكتب لنا هذه الخطوط علي الرمل والي ذلك كان يفهم احوالنا مما اثار الريبة في نفوسنا فاذا صرخ احدنا او اصدر اي صوت تجده يقولك يا فلان قرصك فلان وكان تمامنا عنده اننا نسلم عليه وكان بعض الاخوة ياتون متاخرين وكان هناك عقاب علي التاخير وعلي اساس انه لا يري يجلس الواحد منهم بعيدا ويظل يزحف علي الارض حتي يصل مكاننا ومجرد ان يصل تجده يقول فلان (حمدلله علي السلامه ) ولابد ان تحكي سبب التاخير واحيانا كثيرة من اسباب التاخير يطلق عليك لقبا يظل معك مدي الحياة فمثلا يوما تاخر الاستاذ عبد الله محمد مختار وحين ساله ردا ( والله ياشيخنا نعجتنا نفخها اللوبي قعدت مع ابوي بخرناها بالعشر عشان تتفشي ) فما كان منه الا ان قال ( هلا هلا يا حسين حكيم النعاج ) ومن الالقاب في دفعتنا اطلق لقب (القليص ) علي الاستاذ بابكر ابو القاسم وعلي الاخ عبد المنعم سالم (البليم ) وعلي الاخ ميرغني الذي لم يكمل دراسته معنا (خارم بارم ) وعلي اخر (حمار الشيخ ) ومن الالقاب في اجدادنا الذين سبقونا مثلا (منيش كلب الحلب اب ريش ) و(دابة الارض ) و (الوغي ) و ( التدي ) و(الضل) ولم يعرف عنه رحمه الله ان تكلم في الغيبات مستحلبا وجدان الناس وكان نادرا ما يرقي الرقيه الشرعية الا بعد الحاح وكان هادئا رخيم النبرة في القراءة في القراءات كلها وكان من اجمل عاداته حتي رحيله انه مع كل موسم زراعة يقرا الحيران القران كله علي ماء ويعبأ في اباريق ويوزعهم علي السواقي لصب الماء في الزراعة كنوع من البركه وكذلك يكرر هذا الفعل عند استواء المحصول درءا للافات والمصائب وفعلا مواسمه تلك مواسم خيرات ما عرفت البلاد مثلا لها في الخير والوفرة مما لا يكرر حيث ترك الناس ناهيك عن هذا الفعل بل انتهت سيرة الخلوات . وكان من احزن ايامه يوم وفاة توأم روحه الشيخ العالم ساتي ماجد القاضي ذلك الرجل الذي عاد من الازهر الشريف قائلا لم اجد تطورا يملا جوانحي هناك وصاحب الهجرة الغريبة لامريكا مما اثر علي صحة الشيخ محمد عيسي وكان له اكبر الاثر في التزامه الصمت فيما عدا تدريس القرآن او الصلاة بالناس وكانت من عجائبه في مرضه الاخير يصلي مسجا في سريره وكان رغم غيبوبته فجاة يسأل هل حان وقت صلاة كذا وبعد اي صلاة يمسك سبحته ويسبح وهو مسجي حتي سقطت سبحته ذات فجر مع الاذان في صباح شات حتي شهق الناس بصوت واحد (لا اله الا الله محمد الرسول الله شيخنا مات ) مما جعل شاعر القرية حاج احمد يسن رحمه الله يرثيه بقصيده مطلعها : فرقو صعيب علينا وهما يا شيخنا حليل اللمه يا شيخنا وين مودينا السما داير تنقط فينا ذاكرا فضله علي الناس قائلا : الحداد بعد مو نحاسا جمرو لماهو مع الناسا (وهو يعني حوله الي ذهب له قيمه وفعلا كان الحداد من ابرز حوارييه رحمهم الله جميعا ) عدد فيها ماثره في تعليم الناس علوم القران بسهولة ويسر لم يعرف عنه يوما انه تبرم او اساء او تجشم او اغلظ علي احد بل كان سهلا ميسورا مبسوطا للناس في كل ان وحين و بيته قبله لكل الناس ولم يؤثر عنه قط خصومه مع اي انسان بل كان هادئا موطأ الاكناف للناس كلها ياخذها بالين واليسر والكلمه الطيبه حتي رحل عن الدنيا مخلفا كنزا من الناس يحفظون عنه كتاب الله حتي ان بعضا من الحفظه قد ووهب له حجه اكراما لفضله عليه رحمه الله رحمة واسعه . [email protected]