الشفاهية هي اعتماد المشافهة في نقل المعرفة، وضعف الاعتناء بالتوثيق والكتابة، وتعد هذه الخاصية من أهم مميّزات البداوة، وهي كذلك من سمات دول العالم الثالث التي ينتمي إليها السودان في إطاريه الأفريقي والعربي، فقديماً كان يقول الغرب إذا مات إفريقي فكأنما احترقت مكتبة، باعتبار أن المعرفة الأفريقية حبيسة الأدمغة تنتهي بانتهاء أجل من يحملها. والعلم لديهم إما في الصدور أو القبور. وتتعاظم مأساة الشفاهية حين تكون سمة من سمات أمة (أقرأ)، فمن أكبر محن أبناء العالم العربي عامة والسودان خاصة، في عالم يحكمه منهج المعلوماتية التوثيقية والتكنولوجيا الرقمية. إن الشفاهية خاصية من الخواص ذات الارتباط الوثيق بالبداوة، فذاكرة البادية هي كبار السن، وأحداثها روايات للسمر وتزجية الوقت وليس بهدف نقل المعرفة وتوثيقها. إن الشفاهية من السمات البارزة في الشخصية السودانية، فكم من عالم ومفكر وأدباء من أبناء السودان مات وماتت معه الكثير من المعارف والآداب والفنون، فقلة من السودانيين هم الذين وثقوا لمعارفهم، وحتى هذه القلة وثقت قلة قليلة من معارفها. لذا فإن السودان بسبب هذه الشفاهية ما زال مجهولاً؛ مجهولاً تاريخه، مجهولةً آدابه، مجهولةً ثقافته، مجهولاً .... آلخ، وبسبب الشفاهية وكما يرى المؤرخون ظل تاريخ السودان لفترة طويلة غير مكتوب وموثق بصورة تسمح بتكوين وعي تاريخي قادر من خلال تراكم الخبرات على ألا يكرر الأخطاء، وأن يدرك المخاطر ويستشرف المستقبل جيداً، فالسوداني رغم ثقافته وحسه السياسي المتميّز، ما زال مرتبطاً بثقافة شفاهية تتبخر سريعاً بعد انتهاء جلسات الونسة. لذلك كان حجم الكتابة السودانية لا يماثل القدرات والإمكانات، وكادت عادة اللاكتابة أن تكون صفة لا يخجل منها المثقفون السودانيون. وتتعاظم المأساة إذا قرئت على خلفية تاريخ التعليم الحديث في السودان، حيث يعتبر من أوائل البلدان التي حظيت بالتعليم الحديث في محيطيه العربي والأفريقي، فجامعة الخرطوم تعتبر من أقدم الجامعات العربية حيث أسست في 8 نوفمبر 1902م ، وجامعة أم درمان الإسلامية نشأت نواتها في العام1901م لتصبح معهداً علمياً عالياً في العام 1912م، كل ذلك في وقت كانت معظم الدول حوله لا تعرف حتى التعليم الأساسي النظامي. وتتعاظم المأساة أكثر وأكثر على خلفية أن أول من كتب الحرف في الدنيا بدل الصور والأشكال والرموز، كان السودانيون إبان حضارة مروي قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وقديماً كان العالم العربي يقول القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، والخرطوم تقرأ. فالشخصية السودانية رغم أنها شخصية قارئة ومثقفة ومطلعة، لدرجة أن السوداني يستقطع من قوته الشحيح لشراء كتاب، ويحرص على مطالعة الصحف اليومية، ويهتم بمتابعة البرامج الإذاعية، وجل مصادر المعرفة والتثقيف، ولكنه رغم ذلك شخصية مستهلكة للمعرفة، غير منتجة لها في الصور التوثيقية، وقد يفسّر البعض ذلك بعامل صعوبات النشر بالداخل أو بسبب ظروف الحياة اليومية، إلا أن العامل الجوهري يكمن في الشخصية ذاتها، فهي شخصية شفاهية بامتياز، ووجود هذه السمة جعل التباين واضح بين عراقة التعليم الحديث وكم المتعلمين والمثقفين في مقابل الحصيلة الموثقة من المعارف والعلوم السودانية. فمتى يكتب مثقفونا وعلماؤنا ؟؟ ، ومتى يدونون معارفهم وينقلونها للأجيال القادمة علماً متراكما وتراثا ينير الدرب ؟؟ جريدة اخبار اليوم 19/أغسطس /2015م [email protected]