أقرب إلى القلب: (1( لم تكن مشاركة البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان في جلسات الأممالمتحدة، محض مشاركة شكلية مراسمية، كما لم تكن بدعة غير مسبوقة، أو إجتراء بلا مرجعية. لقد قام أربعة رؤساء/ بابوات من الفاتيكان عاصمة الكنيسة الكاثوليكية في العالم، بمخاطبة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورات سابقات. في الدورة السبعين هذه وفي يوم الجمعة 25 سبتمبر 2015، خاطبها البابا فرانسيس، فلمس قضايا حيوية تتصل بأحوال العالم والبشرية جمعاء. برغم ما لهذه الدورة من أهمية، لكونها تأتي في الذكرى السبعين لإنشاء المنظمة الأممية، غير أن البابا فرانسيس يتجاوز الأحوال السياسية التي يمرّ بها العالم حالياً، وتشغل بال أكثر الزعماء المشاركين في هذه الدورة، ليتحدث بتركيز أكثر على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية التي تتصل مباشرة بحياة الناس. (2) أوجز فيما يلي بعض ما تناوله البابا في مخاطبته للجمعية العامة للأمم المتحدة: - ألمح إلى الاهتمام بالتشارك بين البشر، فاقتسام الموارد لصالح البشرية يستوجب اتاحة مساحات أكبر للمساواة بين الجميع في اتخاذ القرارات الكبرى . - طالب بضرورة تفعيل أنشطة المؤسسات والأجهزة الدولية وأكد أن على المؤسسات المالية الدولية دوراً مطلوباً للارتقاء بالبلدان النامية، وعليها السهر على تحقيق تنمية مستدامة تبعد البلدان الصغيرة عن الوقوع في أنظمة القروض المجحفة، وعليها أن تعمل بجد نحو إنهاء الفقر الذي سيدفع أعداداً من البشر- إن لم نعمل على التخفيف منه - إلى الوقوع في فخاخ التبعية والتهميش.. - أكد البابا على ضرورة الاهتمام بحماية البيئة في "بيتنا المشترك"، وأعلن ضمّ صوته إلى أصوات الجميع الداعين لتبني "أجندة 2030 للتنمية المستدامة"، وهي التي أقامت لها الأممالمتحدة قمّة خاصة في هذه الدورة. كما تطرق إلى إصلاح البيئة كمحور مهم من محاور تلك الأجندة. . - أدان الحروبات والنزاعات المسلحة لما تشكله من مشاكل اللجوء والنزوح، ومن اعتداءات على البيئة . - اشار إلى أن انتشار أسلحة الدمار الشامل مثل الأسلحة النووية، يشكل مهدداً مباشراً للبشرية، ويتناقض مع مثل الأممالمتحدة برمتها، فتصير "أمم متحدة" بالخوف، لا "أمم متحدة" بالطمأنينة والسلام. . - على البشرية أن تعمل على منع العنف الممنهج ضد الأقليات العرقية والدينية.. وأنه لا ينبغي تأجيل بعض القضايا لتترك للمستقبل فيما الصراعات العالمية تحتدم. (3) لعلّ مشاركة البابا - رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم- في هذا المحفل الدولي، يكتسب أهمية خاصة في هذه الدورة التي جرى فيها تعزيز دولة الفاتيكان، كعضو مراقب منذ سنوات في الأممالمتحدة، فأقرّ لها في هذه الدورة حق رفع سارية بعلمها، ضمن أعلام الدول الأعضاء في مبنى الأممالمتحدة. في مختصر القول، فقد نال الصوت الكاثوليكي وضعاً أكثر اقتراباً من وضع الدول الأعضاء في المنظمة الأممية، وسيكون للفاتيكان حق المشاركة، ليس كضيف عابر بل كعضو ومراقب ضمن المنظومة الأممية، وإن كانت عضوية منقوصة في الوقت الراهن . برغم خصوصية وضع الفاتيكان التاريخي، لكن تظل هي الممثل الرسمي للعقيدة الكاثوليكية، داخل أكبر منظمة أممية سياسية مؤثرة. يتساءل المرؤ إن كان ثمّة تطور مستقبلي يبشّر بتوجه لإتاحة مساحات للعقائد الدينية الأخرى، فتحصل على مساحات مشابهة لتلك التي حظيت بها دولة الفاتيكان. لو كانت لجامعة الأزهر وضعاً دينياً يماثل في فهم أهل السنة وضعية الفاتيكان، ناقصاً التراتبية الكنسية التي لا توجد في الإسلام، فهل نطمع مستقبلاً، أن يكون لجامعة الأزهر الشريف صوتاً يسمع داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة.. ؟ (4) ولعلّي أمضي إلى أكثر من ذلك، فألمح إلى أنّ أكثر الاتفاقيات والمواثيق الدولية، قد صيغت والبلدان الإسلامية في غيابٍ لأسباب موضوعية معلومة. إن من بين تلك المواثيق ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948، ونلاحظ أن بين من شارك في مداولاته ولجان صياغته، مواطن واحد أو اثنان على الأكثر من الشرق الأوسط ، أحدهما الدكتور طه حسين والثاني شارل مالك. الراحل طه حسين مفكر مصري معروف، أما شارل مالك فهو مفكر مسيحي واستاذ جامعي ودبلوماسي من لبنان، وإن كان مسيحياً فإن له إلماماً واسعاً بالعقيدة الإسلامية، وكان مقرراً للجنة الثالثة المنبثقة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، التي كلفت بإعداد وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان . ضعف الصوت الإسلامي في تلك الوثيقة العالمية الهامة، كان بسبب ضمور تمثيل الشعوب الإسلامية لوقوع أغلبها تحت نير القوى الاستعمارية، إلا أن ذلك لم يحُل دون اعتماد فقرات في الإعلان العالمي، تتوافق مع قيم العقيدة الإسلامية. لقد كان لسعة فكر أعضاء تلك اللجنة التي ضمت مفكّرين كبار من أنحاء العالم المختلفة، ما حفز بصرهم إلى الالتفات للعقيدة الإسلامية، وهي التي حملت التوازن بين حق الفرد وحق الجماعة، وقد كان ذلك محور مداولات طويلة في أروقة اللجنة الثالثة. تظل الحاجة ملحّة للشعوب الإسلامية لإعلاء صوتها ليبلغ أذاناً لا تسمع إلا أصداء متطرفين في بقاعٍ إسلامية، يرفعون في أنحائها رايات الإرهاب الدولي، مثل "داعش" و"طالبان" ومن لفّ لفهم في المناطق التي حولنا.. +++++ الخرطوم- 30 سبتمبر 2015 [email protected]