أن تنام على صوت أم كلثوم و صدى أهاتٍ يرتعش لها سكون الليل، أن تصحو على نسائم فجر يعطره صوت والدٍ وهو يرتل القرآن أعذب ترتيل، هذه كانت ملامح طفولةٍ شكلت فيّ تفاصيل الروح. لم أكن وقتها أعي ما تردده تلك الكروانة و لكن كنت أدرك تماماً أن تلك الهيبة الراسخة على وجه أبي - القاضي الصارم- لا تنكسر حدتها الا بسحرٍ خارقٍ أو تراتيلٍ مقدسة. وقتها كانت شقيقتي الكبرى بروفسير/ أمل عمر بخيت من عشاق راديو مونتي كارلو و بعض الإذاعات العربية. كانت هذه "الأمل" وجه الثقافة و الجمال و الضوء الذي لا ينطفئ. كانت برقتها و وسامة قلبها تعشق ذات المزمار فلم يكن لي وقتها أن اتجاوز "الست" التي إجتمع على صوتها صرامة أبي و رقة شقيقتي و فضول الطفولة. مضت أعوام و انا أدرب الطفلة على إرتقاء سلم "الذوق" للّحاق بركب العاشقين الى أن إستمعت يوماً ما الى "سيرة الحب" فبدأ مشوار الحب و البحث في تراث أم كلثوم الذهبي. بحثت و إستمعت و أتقنت السمع برغم حداثة سني وقتها. عشقت "أنت عمري" حتى صارت ضياء عمري و معيني في أحلك اللحظات. كل ذلك كان نتاج زمنٍ معافى و ليالٍ جميلة و أناس يسقونك الجمال قطرة قطرة حتى تتذوقه كل خلايا الجسد ليالي الخرطوم وقتها، سحرها، لطف أجوائها و رقة أهلها، لم تكن الا لتولد في قلب كل إنسان حب الجمال و الفن الأصيل. غنت أم كلثوم أعظم القصائد فسمت بالقلوب إلى أعلى مراتب الإحساس. الآن تغيرت الحياة و إنكمش الزمن و كأنه لايطيق طول لحظات من الرقي و العذوبة. صارت أغاني أم كلثوم و زاد الشجون للعظيم محمد الأمين و الود للموسيقار وردي و بقية سمفونيات الفن العربي، بشقيه الخماسي و السباعي، رفاهية طربية، أو ك "حمام ساونا" نلجأ اليها برغم حرارة الطقس لتفتيح مسام الذوق و غسل أتربة الزمن و السفر على جناح الطرب لزمان الحب و العشق النبيل. لم تعد "فكروني" سيدة زمانها و لكنها مضاد حيوي نستعين به على إلتهابات الحياة المادية وسطحية المشاعر. لم تعد الليالي ساكنة هادئة تفيض ب "الحبِ كله" ك "لَيلةِ حبٍ" من "ألف ليلة و ليلة" ولم تعد معانٍ ك"أمل حياتي" و "أنت الحب" الا "أطلال" و ذكرى نجترها اجتراراً في هذا الزمان الجاف. ما أود قوله أنه لن يضيرنا لحظات سماعٍ لفنٍ راقٍ من وقتٍ لآخر وبث آهاتٍ عبر الشرايين عساها تقينا شر "الجلطات". قليل من الأصالة و مشاعر عميقة في "أغداً ألقاك" أو "بعيد عنك" كبسولة ضد السموم وطاقة جمالية نستعين بها على زمان الزيف و الإحباط. الحياة كما نعلم موازنات. من المفيد أحياناً أن ننفض الغبار عن أشياء أسعدتنا قديماً علها توقظ سعادة نائمة! نقطة ضوء: هذه ليلتي وحلم حياتى بين ماضٍ من الزمان وآت.. الهوى أنت كله والأمانى فأملأ الكأس بالغرام وهاتِ.. بعد حين يبدل الحب دارا والعصافير تهجر الأوكار.. و ديار كانت قديماً ديارا .. سترانا كما نراها قفارا..سوف تلهو بنا الحياه وتسخر.. فتعال أحبك الان أكثر! نافذة للضوء أخبار اليوم [email protected]