نلاحظ عندما يداهم الموت فجأة شخصا ما ، رغم مرارة الفقد وحسرة الموت ، تقوم مؤسسة التقاليد بشكل تلقائي وعفوي بتفعيل هيكلها التنظيمي والوظيفي بإقصى درجة من الكفاءة وتوزيع المهام والأعباء بدقة ونظام ، كأنما لكل واحد وصف وظيفي مفصل ودقيق. سرعان تتوزع الفرق المتخصصة العمل في ما بينها. فريق من أهل الخبرة والحكمة يعهد اليه بتبليغ الخبر لأهل الميت وأقرباءه حيث ما كانوا ، وفريق يذهب بالنعي الي الإذاعة وبقية وسائل التواصل الإجتماعي . هكذا يكون الإعلام الإجتماعي قد أدي دوره كاملا ، والدليل علي ذلك إحتشاد المقابر بالمشيعين الذين جاءوا من كل حدب وصوب عبر جغرافية العاصمة المثلثة في وقت وجيز ! ، ماتزال مؤسسة التقاليد تعمل علي قدم وساق ، من جهة أخري ، يقوم فريق من الشباب بتركيب سرادق العزاء واحد للرجال وآخر للنساء . ثم يرصون الكراسى والمناضد من حولها . هذا الفريق غالباً مايكون تابعاً للفرقة اللوجستية والخدمات العامة .كما لابد من الإشارة الي الفريق المتخصص في خدمات الفندقة " الكيترنق " حيث تجهيز الطعام والشاي والقهوة . كنت أتمنى أن تظل العادات القديمة باقية ، عندما كان بيت الميت يكون مقفولا ليتفرغ أهل الميت لممارسة أحزانهم و محاولة التمسك بإهداب الصبر كجسر يعبرون من خلاله مرحلة الفقد وحسرة الرحيل المباغت ، عندما كان الجيران كل الجيران يقومون بواجب تقديم الطعام من بيوتهم مشاركة وجدانية في مصاب جارهم الذي يكفيه ما هو عليه من صدمة وحزن . لكن يبدو ان هذا الجزء من التقاليد قد تغير الي حد كبير ،حيث أصبح اهل الميت هم من يعدون الطعام لمن جاءوا لتقديم واجب العزاء . ربما في بعض الأحياء الشعبية العريقة كما سمعت ما زال الجيران أو جمعياتهم الخيرية من يقوم بذلك بديلاً عن أهل الميت . اللافت أيضا إلتزام الناس كل الناس حتى المرضى وكبار السن الصارم في التعاطي في تقديم العزاء كواجب مقدس . هذه فضيلة تميز أهل السودان عن غيرهم في دول الجوار العربية منها والإفريقية . أما التقصير في تقديم واجب العزاء أيا كان منصب الشخص أو مكانته الإجتماعية ، فهو أمر غير مقبول إطلاقاً من المجتمع . كثيرا ما يقّيم الناس بمدي ما لديهم من رصيد مع غيرهم في مجاملات الأفراح والأتراح . نلاحظ أيضا مدي حماس الناس وإخلاصهم في التعاطي مع بيوت العزاء . حتى أنهم فعليا يتقاسمون مع أهل الميت حمولة الحزن الثقيلة ،التى لولا مشاركة الناس الوجدانية ووقوفهم هذه الوقفات النبيلة خلال ليالى المأتم لسقط أهل الميت فريسة لأحزانهم . هذه ملاحظات عابرة حول مؤسسة التقاليد عندما تكون في ذروة عملها في مناسبة من مناسبات العزاء ، حيث تبدو في قمة النشاط التنظيم والإدارة بمنتهي الكفاءة والفعالية . علي الجانب الآخر من الصورة دعونا نتأمل ( مؤسسة الدولة ) في مقاربة مع ( مؤسسة التقاليد ) . لنأخذ نموذجا ،وأنت هابط من الطائرة متلهفا متى تطأ قدميك أرض الوطن الطاهرة ، تصدمك مظاهر الفوضى وعدم إلتزام العاملين في المطار بالزي الرسمي كما هو مقرر عليهم ! مجرد ان تصل عند كاونتر الجوازات لم يكن هناك أحد ..إنتظرنا جاءوا يجرجرون أقدامهم كأنما لم يدخلوا الخدمة العسكرية يوما ! ليس في المطار من إيجابية واحدة سواء ما طرأ علي دورات المياه من تحسين . كأنما دورات المياه عندما تكون نظيفة يعد هذا إنجازاً لإدارة المطار !. تذكرت صحافياً ساذجا لم يسبق له أن غادر السودان ، كتب ذات مرة واصفاً صالة الإستقبال بأنها من عجائب الدنيا السبع !! وهناك ايضاّ شاعر معروف وصف سد مروي بأنه من عجائب الدنيا . لقد حيرونا! كم بلغت إذن عجائب الدنيا يا تري عندما نضيف لها مثل صالة القدوم في المطار والسد ؟؟ لو عمل السودانيون بنفس الحماس والنظام والدقة والإخلاص والإلتزام الذي يقومون به في تعاطيهم مع الأفراح والأتراح داخل (مؤسسة التقاليد ) مثل هذا العمل في ( مؤسسة الدولة ) لكانت مؤسسة الدولة في السودان أفضل وأقوي بكثير من ما هي عليه الآن ، وربما كان السودان من أفضل الدول في جوارنا العربى والإفريقي . [email protected]