الجلطة الفكرية السودانية: تعرضت الثقافة السودانية لشلل كلي نتيجة للجلطة الفكرية التي عمت النخب السودانية طوال تاريخها وتحديدا منذ الاستقلال والى الآن، وتحتاج إلى عملية اسعافية نتيجة لاشتداد الأزمة السودانية وارتداد المجتمعات من الثقافة إلى مكوناتها الأولية القبلية والعشائرية وكل ذلك نتيجة لعدم وجود فكر سوداني يدعم سعي المجتمعات نحو التحول والتكامل داخل ثقافة واحدة تقودها رؤية كلية تساند تلك المجتمعات على استيعاب ذاتها الكلية السودانوية. وكان ذلك الانسداد من قبل النخب نتيجة لكسلها وكذلك لقوة الفكر العربي والغربي الايدولوجية والذي تقدم بسنين كثيرة وعمل على التكامل بين الفكر وبين مجتمعه واختار واجهات ايدولوجية دينية أو علمية كمعبر عن ذاته في مقابل الآخر. فتأخر الفكر السوداني نتيجة لعدم وجود تراكم فكرى يقود إلى رؤية كلية ولم يأتي من يضع لبنة في مسار الفكر السوداني خارج إطار الفكر العربي والغربي، فتوزع الفكر السوداني وتشتت داخل الفكر العربي والغربي. وأصبح كل جيل يحيل تلك الأزمة إلى الجيل اللاحق ويتفرغ هو إلى مصالحه ومكانته الشخصية. سودنة الفكر: لإيجاد فكر سوداني نحتاج ان نسير في ثلاث طرق متوازية ولكنها تتكامل لتشكل الفكر السوداني، اولها هو نقد الفكر العربي والغربي وإعادة استيعابه كفكر إنساني جاء نتاج علاقة جدلية بينه وبين واقع محدد إذا كان الواقع العربي أو الواقع الغربي، ويكون ذلك بنزع الغطاء الايدولوجي الذي يتدثر به إذا كان الديني أو العلمي ومحاورته كفكر فقط. ثانيا صياغة رؤية كلية تعبر عن الإنسان السوداني وتحولاته وتستوعب كل الحياة، فالرؤية الكلية تعبر عن استيعاب للذات الكلية للفرد وتعيد تعريف تلك الذات وكذلك تعرف الآخر المختلف والأخر الضد وتستوعب مفهوم الإله. والمسار الثالث هو كتابة تفاصيل لتلك الرؤية تحيلها إلى تفاعل يومي بينها وبين الثقافة وتستطيع من خلال ذلك التفاعل ان تجديد تلك التفاصيل بناء على التحولات الاجتماعية. نقد الفكر العربي والغربي: لإنتاج فكر سوداني نحتاج إلى تفكيك الفكر العربي والغربي من ايدولوجيته والنظر إليه كفكر إنساني ناتج من تفاعل النخب مع مجتمعاتها، ويجب ان نستوعب ان لا وجود لمفهوم الخلاص القيمي الذي يتبناه الفكر العربي والغربي، فلكل مجتمع قيمه الخاصة الناتجة من تفاعل تحولاته الاجتماعية، وبغض النظر عن ادعاء ذلك الفكر بان القيم من الإله أو من العلم يجب ان نستوعب انها قيم اجتماعية ترجع إلى مجتمعات محددة نتجت من اجل ان تمارس تلك المجتمعات إنسانيتها وتحاول الوصول من خلالها إلى التوازن بين الأنا والذات الكلية للفرد. فنقد الفكر العربي والغربي الذي نمارسه وكذلك صياغة رؤية كلية تستوعب كل المجتمعات السودانية داخل الذات الكلية هو بمثابة وضع لبنات من اجل وجود فكر سوداني، فعملت على تفكيك المقولات الايدولوجية التي توحد بين الإرشاد الإلهي وبين القيم العربية في الفكر العربي بداية من الاختلاف في تعريف الإله بين الفكر العربي وفلسفة التحولات إلى الاختلاف بين الإرشاد الإلهي والرسالة القيمية العربية وغيرها من المفاهيم العربية التي تم قولبتها داخل مفهوم الإله والرسالة، وركزنا في الفكر العربي على المفاهيم التي تدور حول الإله لان كل الفكر العربي تم تضمينه داخل الرسالة. اما الفكر الغربي فأبرزنا علاقة الفلسفة الغربية ومفاهيمها مع التحولات الاجتماعية للثقافة الغربية ووجدنا ان مفاهيم ديمقراطية الفرد والاقتصاد الحر وغيرها ذات علاقة جدلية مع المجتمع الغربي وتحولاته. ووجدنا أخيرا ان بقاء الرؤية الكلية داخل المجتمعات لا يرجع إلى استيعابها لذلك المجتمع فقط ولكن إلى عدم وجود رؤية أخرى تحفز المجتمعات للتحول عنها، ولذلك حتى لو لم تمثل تلك الرؤية ادني استيعاب للمجتمع نجده يتمسك بها ويعالج القصور الناتج من الاختلاف بين الرؤية وبين مرحلة التحولات بمعالجات وقتية مع ترك الرؤية كما هي. الرؤية الكلية للمجتمعات: تحتاج المجتمعات لرؤية كلية توضح لها الذات التي تنتمي إليها، فإذا كان مفهوم القبيلة أو العشيرة يكفي في مراحل تحولات سابقة فان المرحلة الثقافية تحتاج إلى تفاصيل أكثر من مجرد مفهوم، ويرجع ذلك إلى اختلاف المجتمعات ومراحل تحولاتها وتباين قيمها المجتمعية. وتقوم الرؤية الكلية على علاقة الأنا بالذات الكلية للفرد وكذلك مفهوم الذات الكلية في مقابل الآخر ثم الاختلاف بين الآخر الإنساني والآخر الضد بالإضافة إلى علاقة الإنسان بالطبيعة وأخيرا مفهوم الإله. تناولت فلسفة التحولات لتلك الرؤية وأبرزت الذات الكلية المتضمنة داخل الوعي الجيني للفرد وكذلك تناولت الاختلاف بين مفهوم الآخر المختلف والأخر الضد وأوضحت ان الآخر المختلف هو كل آخر خارج الذات الكلية للفرد اما الآخر الضد فيمكن ان يكون داخل أو خارج الذات الكلية، وكذلك مفهوم التكامل الإنساني الطبيعي والعلاقة بين الإنسان والبيئة، وأخيرا أوضحت فلسفة التحولات مفهوم الإله المتعالي وتناولت العلاقة بين الفعل الإلهي والفعل الإنساني وأخيرا أوضحت الفلسفة مغزى الحياة الإنسانية التي قادت المجتمعات طوال تاريخها وكانت دافع للتحولات في المحاولة للوصول إلى استيعاب للإنسانية والوصول إلى مرحلة الاتزان داخل الفرد بين الأنا والذات الكلية. التطبيق العملي للرؤية الكلية: بقي أخيرا تطبيق تلك الرؤية من خلال مفاهيم توضح للمجتمعات ما في داخل وعيهم الجيني من إحساس وتقودهم إلى التكامل الإنساني الإنساني داخل مجتمعاتهم ليظهر الشكل الثقافي وتتضح معالم السودانوية كانتماء لكل المجتمعات والأفراد، وكذلك يبين شكل العلاقة بين الثقافة السودانية والثقافات الأخرى. ولتتشكل تلك التفاصيل نحتاج إلى المختصين والمهتمين في كل التخصصات مع استيعاب هدف الرؤية الكلية وهي الوصول إلى الثقافة السودانية، وعلينا إدراك ان مسئولية النخبوي ليس تحويل المجتمعات عن مسارها ووضعها في مسار يفترض النخبوي انه الأنسب لها، ولكن مهمة النخبوي هو استيعاب المجتمعات كما هي ومساعدتها للوصول إلى إنسانيتها وتوازنها الداخلي بأفضل واقصر الطرق. ومن هنا يمكن ان نرى بعض الأفكار التي من شانها ان تقود المختصين والمهتمين بالثقافة السودانية للقيام بدورهم. ففي الاقتصاد مثلا علينا ان نستوعب ونحن نضع تفاصيل إدارة الاقتصاد ان الهم الأساسي بالنسبة للمجتمعات والأفراد هو الوصول إلى التكامل الإنساني والاتزان ولا يقود الاقتصاد الحر إلى ذلك بل يقود إلى عكسه تماما، وكذلك ليس علينا تحويل المجتمعات القروية أو الرحل إلى مدنية ولكن علينا التفكير في كيفية ادخلهم في دائرة الاقتصاد كما هم وان نساعدهم بأفضل الطرق للوصول إلى اتزان ورضا نسبي، فالأساس في الاقتصاد هو المجتمعات وطريقة ممارستها لحياتها وقيمها وعاداتها، فيساعدها كما هي وليس كما يتمني. فإذا على المختصين والمهتمين ان تكون لهم رؤية كاملة لكل المجتمعات ولكل المناطق وكيفية مساعدتها في إدارة شئونها وادخالها في الدائرة الاقتصادية الكلية، وبعد ذلك من خلال جدلية التفاصيل والواقع يمكن ان نصل إلى صورة نموذجية آنية للاقتصاد. وكذلك يمكن للأطباء والصيادلة إدراك الأمراض البيئية وعلاجها الذي يوجد داخل الطبيعة السودانية، فيمكن للبحوث ان تبدأ بالإرث السوداني الموجود عند كل المجتمعات والتي ساهمت في بقاء واستمرار الإنسان السوداني وان تحولها إلى أبحاث علمية تضيف بها للإنسانية. وكذلك عند القانونيين نجد الكثير من المهام التي تنتظرهم والتي من أولها هو استلهام القيم المجتمعية وتحويلها إلى نصوص قانونية وان يكون التشريع مستمد من داخل قيم الثقافة السودانية، وكذلك إعادة تعريف الجريمة والجناية والمصطلحات القانونية بناء على الأعراف الاجتماعية، ودخول المحكمين والأعيان إلى داخل نصوص القانون بصفة أساسية حتى تظهر الصورة الاجتماعية للقانون وليست الصورة الفردية التي تتمثل في قاضي أو اثنين، وكذلك كيفية تسريع التقاضي وإصلاح البرلمانات بان تكون السلطة الحقيقية بيديها باعتبارها تنوب عن المجتمع وإصلاح مفهوم الحصانة وتجريده من السلطة وان يكون قيمة اعتبارية فقط، وغيرها الكثير. وعلى النخب إعادة السياسيين إلى وضعهم الطبيعي باعتبارهم موظفين ودرهم الأساسي هو التنسيق بين فروع المؤسسات ولا يمتلكون الدولة ولا يمتلكون سلطة فالسلطة في يد البرلمانات وفي يد المجتمعات فقط، وعلينا ان ندرك ان استجلاب الشكل الخارجي للدولة من الغرب مع مزجها بالفكر العربي هو الذي انشأ التشوهات الظاهرة في الدولة السودانية. فيجب في الدولة السودانية ان لا يمتلك الرئيس والوزير والوالي سلطة حقيقية مثل سلطة التدخل في الأعمال أو الإعفاءات أو التدخل في سلطة المحاكم أو حل البرلمانات فهو مجرد موظف تنسيقي، فعلينا ان نبدع نظام رئاسي مختلف يعتمد على البرلمان أكثر من الرئيس فيمكن للبرلمان ان يزيح الرئيس ولكن لا يمكن للرئيس ان يزيح البرلمان، فيمكن للمجموعة ان تزيح الفرد ولا يمكن للفرد ان يزيح المجموعة، أي ان تكون الدولة بما فيها الرئيس تحت سلطة البرلمان أو المجموعة الممثلة للمجتمع، والأكثر غرابة في الدولة السودانية ان تسمع بان الرئيس أو غيره يتبرع إلى جهة ما وهو تشوه حقيقي فالمال المجتمعي يجب ان يذهب في قنوات محددة وان لا يكون تحت يد أي مسئول حق التصرف بعيدا عن البنود المحددة وان لا يكون له حق الوصول إلى الأموال في الأساس. وأخيرا: ولإزالة الجلطة التي عمت الثقافة السودانية منذ زمن بعيد وأوقفت شرايين الفكر من التدفق، يجب علينا ان لا ننتظر ثورة أو انتفاضة ثم بعد ذلك نجلس لنرى ماذا سنفعل، فهذا مجرد كسل وتهرب نخبوي من المسئولية فيمكن للنخب ان تتواصل بأي من طرق الاتصال التي مكنت الجميع من التلاقي بغض النظر عن مكان وجودهم، فعلينا ان نبدأ حوار كيف يحكم السودان تحت مظلة رؤية كلية سودانية. [email protected]