يحفل تراثنا في دار الريح بضروب شتى من التراث، منها الجراري الذي نختار منه نمة اليوم: تقول الشاعرة: منزرع لِيّا دخينا فوق الأرض الزينا الزول كان شاف بي عينا تصبح ليهو بدينا هذه النمة ذات المفردات البسيطة تحمل من المعاني الخفية الشيء الكثير. بمعنى أن الشاعرة لجأت لأسلوب الكناية والتورية؛ أي أنها تستعمل كلاماً يحتمل معنيين يفهم منه السامع أو القارئ معناً بينما تريد هي معناً آخر؛ بقصد الإيهام. فهذه الشاعرة البليغة تتحدث عن أرض تصفها بأنها "زينا" تنوي أن تزرع فيها قليلاً من الدخن "دخينا"، والتصغير هنا للتمليح، أو ربما تقصد كمية قليلة، ويكون الإنتاج طيباً ووفيراً ومباركاً؛ بحيث إذا رأى شخص ما إنتاج هذا الزرع، مجرد رؤية بالعين، يصبح بديناً أي ممتلئ البطن! ولكن هذا ما لم ترده الشاعرة يا رعاك الله؛ بل هي تتحدث عن محبوبها وتكني عن أصله، لأن الأرض الطيبة لا تنبت إلا طيباً؛ ولذلك فإن هذه الشاعرة، مرهفة الإحساس، وسليمة الذوق، تتمنى أن تتزوج بمحبوبها حتى تكون لها ذرية في ذلك المنبت الطيب. هذا كلام في منتهى البلاغة وحسن التعبير والسمو بالفكرة والإحساس حتى يبلغ شأواً بعيداً. وهذا أسلوب شائع، ليس في شعر دار الريح فحسب، بل في كثير من أغاني الحقيبة والشعر الغنائي السوداني بشكل عام. والقريب أن معظم الذين كتبوا هذا النوع من النظم البديع هم من الأميين والأميات، مما يدل على شاعرية الإنسان السوداني بفطرته وطبعه. ويكثر هذا التلطف في التعبير كلما أوغل الإنسان في البداوة، وحياة الريف، حيث تنعدم المؤثرات التي قد تفسد اللغة من اختلاط بالعجمة وتكلف في الكلام، واكتساب عبارات دخيلة، لا صلة لها باللغة العربية، الفصيحة أو العامية. هذه مجرد جرة نم نقدمها نموذجاً للقارئ الحصيف حتى يعلم مدى بلاغة أهلنا في دار الريح. [email protected]