بدعوة كريمة من الصديق العزيز الأستاذ أحمد البشير عبد الماجد (الفنجري السابل عِرضو ما مشروط)، وحرمه الفاضلة الدكتورة آمنة عبد القادر، أستاذة التربية بفرع جامعة الأمير سلطان في مدينة ليلى، توجهنا من الرياض ضاربين كبد الصحراء في عالية نجد جنوباً بمحاذاة وادي حنيفة حتى اجتزنا ديار بني تميم، وصولاً إلى هذه المدينة الوادعة التي تحتضنها الكثبان، ويحفها النخل. ومدينة ليلي أو الأفلاج هي واحدة من معالم الجزيرة العربية التي ارتبطت بقصة حب مشهورة جداً في الثقافة العربية، وسميت ليلى تخليداً لاسم بطلة تلك القصة "ليلى العامرية". فهنا يوجد جبل التوباد الذي ظل شاهداً على قصة الحب الخالدة بين قيس بن الملوح ومحبوبته ليلى. ويقع هذا الجبل في قرية "الغيل" التي تبعد 35 كيلاً شمال غرب الأفلاج، الواقعة على بعد حوالي 300 كيلاً إلى الجنوب الغربي من العاصمة السعودية الرياض. وقد كان أبناء العمومة قيس وليلى طفلين صغيرين يرعيان البهم على سفوح هذه الجبال، فأعجب بها وقال: تعلقت ليل وهي غرٌّ صغيرةٌ ولم يبد للأتراب من ثديها حجم صغيرين ترعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم كبرا معا، وكبر حبهما لكن العذال لم يتركوهم يتمموا هذا الحب بالزواج، فبدأوا يوشون لأهل ليلى حتى منعوها عنه. وقد خلد أمير الشعراء أحمد شوقي قصة قيس وليلي في قصيدته ذائعة الصيت معبراً فيها بلسان قيس عن حبه لليلى فقال: جبل التوباد حياك الحيا وسقى الله صبانا ورعا فيك ناغينا الهوى في مهده ورضعناه فكنت المرضعا وعلى سفحك عشنا زمنا ورعينا غنم الأهل معا وحدونا الشمس في مغربها وبكرنا فسبقنا المطلعا هذه الربوة كانت ملعباً لشبابينا وكانت مرتعا كم بنينا من حصاها أربعا وانثنينا فمحونا الأربعا قد يهون العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعا وحتى هذه اللحظة، كلما ذكر جبل التوباد تداعت للخيال تلكم القصة الرائعة التي ظلت تلهب خيال العشاق والشعراء والأدباء والكتاب؛ فصوروها وكتبوا عنها وتناولتها كثير من المقالات والروايات وجسدتها الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية والإذاعية. ومن شعر قيس بن الملوح في التوباد قوله: وأجهشت للتوباد حين رأيته وكبّر للرحم حين رآني وأذرفت دمع العين لما عرفته ونادى بأعلى صوته فدعاني فقلت أين الذين عهدتهم حواليك في خصب طيب زماني فقال مضوا واستودعوني بلادهم ومن ذا الذي يبقى من الحدثان غادرنا عيون الأفلاج، مُوَدّعين بمثل ما استقبلنا به من حفاوة، وتوجهنا نحو مدينة القويعية، الواقعة على الطريق الذي يربط بين الحجاز ونجد. ومن محاسن الصدف أننا قد مررنا، في تلك الرحلة، عبر مناطق شهدت، هي الأخرى، صولات وجولات للملك الضليل امرؤ القيس بن حُجر الكندي الذي ولد في هذه المنطقة من بادية نجد، ونشأ ميالاً إلى الترف واللهو، وكان يتهتك في غزله ويفحش في سرد قصصه الغرامية، وهو يعتبر من أوائل الشعراء الذين ادخلوا الشعر إلى مخادع النساء. وكان يعدّ من عشّاق العرب، ومن أشهر من أحب من النساء فاطمة بنت العبيد التي قال فيها: أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي أغرك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل؟ عاش أمرو القيس في وسط هضاب الدَخول وحَومل وهي مناطق لا تزال تعرف بذات الأسماء. هذه الهضاب الجميلة تقع في فلاة من الأرض الرملية المنبسطة إلى الجنوب من محافظة القويعية. وهي من أجمل الأماكن في هضبة نجد؛ فلا عجب أن تغنى بها الشعراء قديماً وخلدوها في شعرهم وخاصة امرؤ القيس الذي ذكرها في مطلع معلقته إذ يقول: قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها بما نسجتها من جنوب وشمأل أما القويعية نفسها فقد اشتهرت بشاعرها الفحل الذي قتله العشق والشوق بعيداً عن دياره، الصمة القشيري الذي قيل إنه أحبَّ فتاة من قومه، من بناتِ عمه، يقال لها العامرية بنت عطيف، فخطبها إلى أبيها فأبى أن يزوجه إياها فخرج الصمة القشيري مغاضباً وذهب إلى العراق حيث توفي هناك. وهو القائل: حننْتَ إلى ريَّا ونفسكَ باعدتْ مزارَكَ من ريَّا وشَعْباكما معَا فما حسنٌ أن تأتيَ الأمرَ طائعاً وتجزعَ أن داعي الصَّبابةِ أسمعَا قِفا ودِّعا نجداً ومن حلَّ بالحمَى وقلَّ لنجدٍ عندنا أن يُودَّعا كل هذه المعالم اقترنت في أذهان دارسي الأدب والشعر العربي ببعض قصص الحب الخوالد، وعلى الرغم من وصول العمران إليها؛ فهي لا تزال تحتفظ بشيء من رونقها وعبقها التاريخي وسحرها وجمالها الخلّاب. ومن يشاهد تلك التلال والكثبان الذهبية ويتنسم هواءها الطلق، يخيل إليه أنه يسمع قيس يناجي ليلى وقد انتحيا في ذلك الغار أو أنه يرى امرؤ القيس يغازل عذارى الحي تميد بهن الهوادج؛ ويرق قلبه للصمة القشيري يودّع نجداً موجع القلب باكياً، فالطبيعة هنا تغري بالترحال والحب العذري والشعر. [email protected]