السودان 1956- 2016: سنوات الاستغلال !! (2-3) من كرامة الاحتلال الانجليزي إلى مهانة الاستغلال الوطني في الجزء الأول من هذا المقال استخدمنا مدخلين مختلفين لتشخيص الحالة السياسية السودانية (ولا ثوريتها). تمثل المدخل الأول في النظر إلى العلاقة الاقتصادية العارية بين النظام ورأسه من جهة وبين سائرالمواطنين من جهة أخرى كما تتجلى في حراكها اليومي البسيط بدون أي رتوش أو مماحكة وكيف أنها لا تتجاوز قيد أنملة صورة حاكم يرسل زبانيته كل صباح ليجنوا ويقطفوا ما عساه تكون في جيوب رعيته من مال نتيجة كدحهم وعرقهم اللانهائي. لا توجد صورة، لا في الحقيقة ولا في الخيال، تجسد معنى كلمة استغلال بأكثر مما تجسده هذه الصورة المنتزعة من الواقع السوداني اليومي المعاش. وتمثل المدخل الثاني في فيضان أسئلة اكتفينا بثلاثة منها تكشف أن جل، إن لم يكن جميع، الجهات والواجهات التي تتربح الآن من ادعاء الاضطلاع بمهمة إسقاط النظام هي في حقيقتها أبعد الأبعدين عن هذا الهدف والله المستعان. لا ضير من الانصلاب أمام مدخل شاخص ثالث أشد إنباءاً وإخباراً بحقيقة ما جرى ويجري: إذا حاولنا الحصول على توصيف نظري لحالة الدولة والمجتمع الذي يحكم بواسطة محتل ومستعمر أجنبي وآخر لحالة الدولة والمجتمع الذي يحكم بواسطة (نفر من) أبنائه الوطنيين. ثم وضعنا التوصيفين جنبا إلى جنب.. جانباً. وطفقنا بعد ذلك نجمع كتلتين من البيانات المكثفة عن أحوال المواطنين في زمن الإنجليز وأحوالهم في زمن الإنقاذ.. تُرى.. أي الكتلتين من البيانات ستوافق أو تقارب التوصيف النظري لحال الدولة المحتلة أو المستعمَرة.. وأيهما ستوافق أو تقارب التوصيف النظري لحالة الدولة المستقلة أو الحرة؟ دعونا لا نفرح كل الفرح بهذه النتيجة المثيرة المدهشة ونسأل أنفسنا سؤالا موضوعيا "تافهاً" وبسيطا : هل كانت الدولة السودانية بعد 1956م، وبافتراض أنها نجت من فترات الحكم العسكري، هل كانت بتركيبتها وأفقها الذي علمنا ونعلم قمينة بأن تقدم نموذجا عمليا أكثر حرية واستقلالا مما كنا عليه في زمن الإنجليز؟؟؟ سنسأل أنفسنا أيضا، فالسؤال (ليس بقروش) : هل كانت تلك التركيبة وذلك الأفق يؤهلها أصلا ً لأن تنجو من تلك الفترات العسكرية (بنت الكلب!)؟؟ ومثلما تضيئء فطرتنا وموضوعويتنا أن أحوالنا في زمن الانجليز كانت أقرب إلى العزة والكرامة والحرية من أحوالنا في زمن الإنقاذ فإنها لن تتهذّب أمام أشواقنا ذوات الرمد وتسهب في أن طعم الدكتاتورية الأولى على الأقل؛ ديكتاتورية عبود، كان أشد ديمقراطية بكثير من نكهات جل إن لم يكن جميع أدعيائها بعده والله المستعان، تاني ، وستمائة، وألف! ذلك هو قدر السودان في سنوات سميت زورا وبهتانا بسنوات الاستقلال والتي أكملت عامها الستين دون أن تغير حال المواطن السوداني الذي كان يرزح قبلها تحت نير احتلال واستعمار وصار خلالها – افتراضا- حراكريما مستقلا ولكن أي حرية وأي كرامة وأي استقلال هذا الذي يقودك من أحوال أفضل على مستوى الاقتصاد الفردي والقومي وعلى مستوىالكرامة الإنسانية إلى أحوال أخرى هي أسوأ بكثير على كل هذه المستويات؟ ومرة أخرى نعود إلى أن العلاقة بين حصان النخب والقيادات وبين عربة الجماهير كانت هي الثغرة وليس غيرها. وأن هذا الفساد في تلك العلاقة هو الذي جعلنا ننتقل في 56 من كرامة الاحتلال الانجليزي إلى مهانة الاستغلال الوطني فلو أننا كنا نظرنا بحق إلى الاستقلال في 1956 باعتباره "رحلة" كل السودانيين إلى الحياة والحرية والكرامة والرفاه والتقدم لما كان هذا حالنا وحال كل السودانيين الآن. إن اسم هذه العلاقة كان في جل تجلياتها إن لم يكن كلها شيئا واحدا هو ا ل ا س ت غ ل ال والمدهش أن كل الذين ناهضوا حالة الاستغلال هذه سواء من منطلقاتهم الطبقية أو الجهوية أو "الرسالية"!! صاروا في نهاية المطاف جزءا من حالة الاستغلال المقيتة هذه . ولا نخجل في هذا الاختتام لهذا الجزء من المقال إلا من كلمة "صاروا" لأنه لا يوجد لدينا أي يقين أنهم لم يكونوا كذلك منذ البداية. ونواصل فتحي البحيري [email protected]