دائماً في أذهاننا صور نمطية عن الأمكنة والمجتمعات، ونرسم لتلك المجتمعات لوحات من وحي الخيال، ونستعير الألوان لتلوين سلوكها، وملامح إنسانها، وكثيراً ما نلتقط الصورة من الشاشة الصغيرة أو الكبيرة أو الاستماع أو القراءة، وأحياناً نُزركش الرسم بانطباعاتنا. بعض الأشياء لم تلتقط صورها بالأبعاد الحقيقية ومن زوايا مختلفة؛ لذا أحياناً نستقبل رسائل تعكس ما يريده المصور من زاويته السلبية أو الإيجابية، وحينما تجمعنا الأقدار بحقائق الأشياء وطبيعة الأمكنة، نبدأ وبسرعة جداً في تنظيف الذاكرة من تلك الصور النمطية التي تتكسر بمجرد أن ترى بالعين المجردة الحقائق، وتخالط المجتمع وتتعرف على الأشياء وطبيعتها.. هذا هو مدخلي لبعض المشاهدات الإيجابية التي علقت بذاكرتي حينما وطئت قدمي أمريكا التي يُكنيها الناس ب(أرض الأحلام)..الصورة النمطية في ذهني عن تلك الدولة العظمى مختلفة تماماً عما وجدته.. أول شيء لفت انتباهي هو إعلاء قيمة الصبر؛ أي الشعب الأمريكي يتصف بالصبر وطول البال، يعني بالمثل السوداني عندهم (حبل المهلة يربط ويحل) ..ممهولون في المعاملات فيما بينهم، كل شيء يمضي بهدوء دون إزعاج، وما يشعرك بالراحة رغم كثرة السيارات الملاكي والعامة لا تشكل مصدر إزعاج مطلقاً، في الطرقات نادراً ما يطرق الآذان صوت بوق السيارة أو(البوري) المزعج، بل قيادة السيارات في أرض الأحلام ترى فيها الذوق الرفيع، والفن، والأخلاق في التعامل مع المشاة..حبل المهلة الأمريكي طويل، ويمتد حتى في المعاملات الرسمية والتجارية دون إهدار للوقت، بل عنوان التعامل هو(لا ضجر، لا قلق،لا استعجال) من طول الصفوف، ولا تجد من يشعر الآخرين بأن وقته أغلى، وأن أمراً مهماً ينتظره، لذا سيخترق الصف. حقيقة الشعب الأمريكي يتمتع بقيم جميلة للغاية الترحيب والتحية، والتبسم تعبيراً عن نقاء النفوس، وعدم التحية شيء مخالف للذوق العام والأدب عند الأمريكان، معاني إنسانية جميلة، هي بضاعة الإنسانية؛ نأمل أن ترد إلينا، رغم الظروف الصعبة التي نعيشها والضغوط المعيشية. حينما تنظر لهذه الدولة العظمى، تدرك أن البناء كان بإعلاء قيمة العمل بهدوء، وصبر. من التجارب الشخصية التي وقفت أمامها مندهشة للغاية وأنا في طور التعرف على هذا الشعب، في ذات يوم كنت قادمة من مدينة واشنطن دي سي إلى مدينة فلادلفيا عبر البص، وهي رحلة تستغرق تقريباً 3 ساعات، في منتصف الطريق وحوالي الساعة السابعة والنصف لسبب ما حدث عطل للبص، وتوقف بالقرب من كافتيريا على الطريق، وأعلن سائق البص أن هناك عطلاً ولا يمكن أن يواصل الرحلة، وعلى المسافرين الانتظار إلى حين وصول بص آخر من واشنطن دي سي؛ من ذات الشركة لمواصلة الرحلة..الأمريكان بهدوء شديد وبدون ضجر او توتر ترجلوا من البص، منهم من توجه نحو الكافتريا، ومنهم من جلس على الأرض متواصلاً مع العالم الافتراضي عبر الهواتف الذكية ، ومنهم من واصل في قراءة كتابه، وبعض الأصدقاء جلسوا يتجاذبون الحديث، باختصار كل شخص دخل في برنامج دون أن يكترثوا(كم من الوقت) ينتظرون البص؛ خاصة بعد تنبيه السائق بأن البص قادم في ساعات الذروة والتكدس المروري..هذا الهدوء لا يعني أنهم لا يهتمون بالوقت؛ ولكن دليل على القدرة على تحمل الأقدار، والصبر متجذر في النفوس. بعد ساعتين وصل البص من واشنطن وتنادى البعض وركبوا البص بكل هدوء، وواصلنا الرحلة. أترككم لتتخيلوا كيف تكون ردة فعل المسافرين والسائق حينما يحدث عطل في البص المتجه من الخرطوم لأي منطقة أو مدينة أخرى..!! التيار [email protected]