الثورات العربية يسمونها الربيع العربي تيمناً بربيع براغ عندما أبدى الزعيم التشيكي السابق الإكساندر دوبشيك بعض التحلل من الاتحاد السوفيتي وبشر ببعض الحريات وذاق التشيكيون انفراجاً لم يعهدوه.. ولكن ذلك الانفراج أو الربيع لم يدم طويلاً فقد محاه السوفيت بغزو مباغت في العشرين من أغسطس عام 1968م. وانتهى الأمر بدوبشيك عاملاً في محطة خدمة يصب البنزين للزباين. ولكني عندما أقرأ أخبار المحاولة الانقلابية الأخيرة وما صاحبها من ملابسات وما انتهت إليه وأتأمل حالنا منذ الاستقلال اتخيل أننا مسافرون على أحد البصات.. البص يبدأ سيره من محطة ما.. في اللحظات التي يكون فيها البص سائراً وعلى ظهره حمولته المكونة من 50 راكباً.. كل شيء يبدو طبيعياً.. هناك شخصان يجلسان بالقرب من السائق يتحدثان عن مشروع ينوي احدهما أن ينفذه في منطقة الدالي والمزموم لانتاج الذرة.. الآخر يرد عليه: هو اصلو ياحاج.. منطقة الدالي والمزموم دي منطقة درة بس عايز شوية تركترات وحراتات وكدا.. أحد الأشخاص يتفقد من وقت لآخر البطيخ الذي وضعه على البص ويمني نفسه بربح وفير عندما يصل إلى سوق المدينة.. وشخص آخر يحمل معه جوالين من البلح البركاوي الذي يجيب الشيء الفلاني في سوق الحبوب. طلاب اكملوا المرحلة الثانوية ولكن مجموعهم لم يوفقهم للدخول إلى الجامعات وهم في طريقهم إلى المدينة للبحث عن عمل أو التقدم للمعاهد الفنية. وأنا أسرح ببصري بعيداً من خلال زجاج البص واقتحم تلك الفيافي أحلم بمدينة فاضلة تحترم فيها النمور والأصلات والورل والتماسيح والافيال والنعام فلا أحد يتغول على جلودها أو يساهم في ابادتها.. وجماعة آخرون كل يفكر في شيء يخصه وينفذ في ذهنه مشروعات عديدة.. تجارة.. دراسة.. زواج.. وظيفة حكومية بناء منزل.. شراء مزرعة دواجن.. ختان الاولاد.. تصليح الأجهزة الكهربائية. ولكن البص فجأة توقف.. الطريق يبدو أمامنا ممتداً حتى يختفي في نقطة التلاشي في الأفق.. ولا شيء يبرر وقوف البص في ذلك المكان.. حيث لا مكان.. وحيث لم نصل أية محطة.. فلماذا توقف البص. ذلك هو السؤال الذي انطلق بين جميع ركاب البص. كل أذهان الركاب تركزت حول قضية واحدة تتعلق بوقوف البص.. لماذا توقف.. سائق البص نفسه لم يجد اجابة مقنعة لتساؤلات الناس.. كل الذي يدريه أن البص توقف.. أحد الذين يفهمون في الميكانيكا أشار إلى سلك الكويل عله يكون مفصولاً.. وعندما تفحصنا سلك الكويل وجدناه في مكانه.. أو لعل سبب التوقف ناجم عن خلل في بلوتين البص.. وفتح سائق البص شنطة كان يحمل فيها بعض قطع الغيار وتم تغيير البلوتين إلا أن البص لم يتحرك.. واتجهت انظارنا نحو البنزين وأنه لا يصل إلى الكربوريتر.. وغيرنا مصفاة البنزين إذ أنها كانت مسخنة.. ولكن البص أيضاً لم يتحرك.. فلا مناص إذن من خلع الكاربوريتر وتنظيفه.. وقد استغرقت هذه العملية زمناً طويلاً.. الا أنها لم تفلح في تحريك البص.. ومضى اليوم على تلك الحالة ونحن لا ندري لماذا توقف البص.. وانتشرت اشاعة تقول إن هناك مؤامرة دبرها مساعد السائق والكمساري وانهم قد صبوا سكراً في تنك بنزين البص وان السكر قد أغلق جميع المواسير فكان لا بد من خلع التنك وفحصه وفي هذه الأثناء أصدر سائق الباص قراراً بايقاف المساعد والكمساري والاحتفاظ بحقه في تقديمهما للمحاكمة في حالة ثبوت التهمة.. تقلصت كمية الطعام الموجودة واتجهت انظار الركاب للبطيخ والبلح البركاوي وغيره من السلع التي كان يحملها بعض الركاب الا ان أولئك قد استطاعوا ببراعة يحسدون عليها اخفاء تلك السلع في اماكن خفية في البص وصاروا يبيعونها «بالدس» لمن يدفع أكثر.. وارتفعت اسعارها بصورة مذهلة. لم يعجب هذا الحال مجموعة من الجنود كانوا يستقلون البص فاستولوا على البص وركابه على اساس ان احدهم من سلاح المهندسين وآخر من سلاح النقل وانهم ادرى بمصالح الركاب وانهم لن يقبلوا باي معارضة وعليه فسيقومون باصلاح البص واستئناف الرحلة.. وقاموا بمصادرة البطيخ والبلح البركاوي واعفاء سائق البص من منصبه للصالح العام واعلن الكمساري والمساعد تضامنهما مع الجنود واعلنوا انهم سيعملون على اعادة البص إلى العمل.. ومضى الزمن والبص لا يتحرك برغم ما كان يقوم به الجنود من محاولات.. وفي الأيام الأخيرة لاحظنا ان الجنود انصرفوا عن محاولاتهم تشغيل البص إلى التحكم في بيع البلح والمواد الغذائية الأخرى للذين وقفوا بجانبهم وأيدوهم في البداية. وحدث تذمر واحتجاج من بعض الركاب الذين ضاق بهم الحال إلى أن تم اقصاء الجنود من ادارة البص بعد انتفاضة شعبية اشترك فيها ركاب المقاعد الخلفية في البص وتم تكوين مجلس تنفيذي لإدارة البص والعمل على تأهيله واعادته للعمل والسير في الطريق ومواصلة الرحلة. المجلس التنفيذي أصدر عدداً من القرارات عزل بموجبها الجنود وكل من تعاون معهم عن الجلوس في ظل البص واختار سائق البص ليمثله في المفاوضات مع ركاب المقاعد الخلفية الذين شعروا أن المكاسب التي حققوها في ثورتهم والنجاح الذي أصابوه باقتلاع الجنود من ادارة البص قد سُرق منهم. بالرغم من انهم أصحاب المصلحة الحقيقية. مضت عدة أيام والمفاوضات جارية بين الأطراف المختلفة لإيجاد صيغة لادارة البص ولكن لم يلتفت أحد للبحث عن سبب توقف البص.. أحد الحادبين حاول أن يفك اسلاك البطارية حتى لا تنزل كهربتها ولكن ارتفعت اصوات تتهمه بأنه يسعى لكسب شخصي رخيص. وان موضوع البطارية كان يجب أن يطرح كمسألة مستعجلة في المجلس التنفيذي وهو الذي سيقرر ما اذا كانت الاسلاك ستفك أم لا. ومما زاد الأمر توتراً أن استقطاباً قد حدث لبعض ركاب الصفوف الخلفية من بعض الجنود الذين رأوا أنه بالرغم من أن ادارتهم السابقة للبص كانت بها بعض السلبيات الا انهم قاموا ببعض الانجازات التي لا ينكرها الا مكابر. ففي زمنهم قاموا بانشاء مظلة من المشمع ربطت على احد جانبي البص لتأوي ركاب البص نهاراً. وقد رد عليهم المجلس التنفيذي ببيان ضاف قال فيه ان انشاء تلك المظلة يكشف بوضوح أن الجنود لم يكونوا يفكرون في اصلاح البص وانهم كانوا يعملون على توطين ركاب البص بصفة دائمة.. في ذلك المكان. الانقلاب الذي حدث وأطاح المجلس التنفيذي كان مباغتاً فعندما كان الجميع يغطون في نوم عميق تحرك بعض أعضاء المجلس وانشقوا عنه وتحالفوا مع فصيل من بعض الجنود الذين لم يشتركوا في المجلس العسكري السابق واستولوا على مفتاح البص واعلنوا استلامهم لمقاليد الأمور. الأيام التي تلت كانت تتصف بهدوء مشوب بالحذر.. ولم يشاهد ركاب البص أي محاولات لإصلاح البص ووضعه في الطريق مرة أخرى.. ولكن صبياً صغيراً تسلل ذات يوم وفتح كبوت البص ونظر في داخله وصاح: البص عايز هواء عشان المكنة تشتغل.. ما في هوا بدخل مع البنزين ولو قعد هنا مية سنة ما بتحرك.. احسن تفتحوا فونية الهواء بعدين المكنة بتشتغل. إلا أن أحد الذين استولوا على البص نهره قائلاً: شوف الفصاحة كمان.. هواء اكثر من دا يجيبوه من وين؟