كثيراً ما يتردد على مسامعنا، عبارات تحذيرية تُوجه لمن يفكر في الخوض في عالم السياسة أو يمتهنها، بأن السياسة لعبة قذرة، نعم أن السياسة هي لعبة خطرة و تسودها الكثير من المؤامرات بين الخصوم أو حتى الحلفاء، و هي لا تصلح للناس الشرفاء لأنها تعتبر بمثابة وحل كبير و من تطأ قدمه هذا الوحل، لا يستطيع الخروج منه، إلا بعد أن يتلطخ بطين المستنقع أو حتى يصيبه بعض رشقات خفيفة من المياه العكرة التي قد تسيء لسمعته الشخصية. فنادراً ماينجو السياسي الذي يشغل منصباً رفيعاً من ألسنة الناس، أو انتشر حوله بعض الشائعات التي تنهش في سيرته الذاتية، ربما تكون حقيقية أو مجرد شائعات كاذبة و مغرضة. إلا أن السياسة في الدول المتقدمة، ليست حرب ووعيد و وتهديد و انتهاك لحقوق الإنسان، بل هي طريقة لحل المشكلات والأزمات التي تتعرض لها البلاد، لكن بطريقة إبداعية وذكية ، تحمي أمن وحقوق المواطنين، وتحقق النمو والرخاء للشعب، إنها ببساطة فن الممكن واللا مستحيل. هذه هي السياسة التي نحتاج إلا ممارستها دون خوف أو تهديد. لذا أن السياسة ليست لعبة قذرة كما هو المعتقد السائد لدى الناس، بل هي أفضل وسيلة يستطيع الحكام و القادة توظيفها من أجل مصلحة الشعوب، و لكنها تعتمد على من هم هؤلاء القادة الذين سيستعملون تلك الوسيلة الإنسانية ؟ فالنتصور مثلاً، لو امتهن السياسة تاجر سلاح ، كيف ستكون نظرته للسياسة؟ بالطبع ستكون السياسة بالنسبة إليه، عبارة عن صفقات للأسلحة الرابحة بين الدول الغارقة في الحروب و الصراعات الدموية، و سوف يستغل منصبه السياسي لتحقيق ثروات هائلة في عالم الأسلحة المشروعة أو حتى المحرمة دولياً ، ولن يهمه حينئذ عدد القتلى و المصابين من المدنيين، فهم بالنسبة إليه مجرد أرقام!! لكن تصوروا، لو امتهن السياسة خبير في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، كيف ستكون نظرته للسياسة؟ بالطبع سوف يخشى هذا الخبير على سمعته، بأنه رجل ينتهك حقوق المواطنين وسوف يقوم بتشجيع حرية الرأي ودعم مؤسسات المجتمع المدني، و سيحرص على الالتزام بالمعاهدات الدولية و القوانين والدستور الوطني من أجل حماية حياة المدنيين؛ لأنه يؤمن بالإنسانية و الحق المقدس بالحياة، ويرى أن الشعب لديه السلطة الأولى و الأخيرة. لكن تصوروا، لو امتهن السياسة رجل شرطة نزيه، قضى حياته وهو يحقق في ملفات الفساد ويلاحق المجرمين، كيف ستكون نظرته للسياسة ؟ بالطبع سوف يلتزم هذا الشرطي بالقانون و سيعتبر أموال الشعب أمانه عنده ، وسيحترم القضاء و لن يتردد بتسجيل أي مورد مالي يأتي للشعب بسجلات الدولة أو يتخاذل في محاسبة الفاسدين ، وسوف سيعتبر أن لا أحد يجب أن يعلو صوته فوق صوت القانون. إذن نستنتج من تلك التصورات السابقة، أن السياسة هي سلاح ذو حدين، يمكن أن تكون قذرة إذا استخدمها الفاسدون و القتلة و يمكن أن تكون نظيفة إذا استخدمها الصالحون و النزهاء. وما نحتاجه بعالمنا الإسلامي والعربي، أن يتجرأ هؤلاء الصالحون و النزهاء بالخوض في عالم السياسة، وأن لا يترددوا بإعلاء كلمة الحق، ومحاربة الفساد و لكن بطريقة حكيمة و سلمية، وتخلو من كافة أنواع العنف و التحريض و التشهير بأشخاص ومؤسسات و شركات و تنظيمات سياسية دون وجود أدلة و إثباتات مادية ، حيث تلك هي الأخطاء القاتلة التي تقضي على صاحبها والتي يقع فيها بعض الوطنيين المتحمسين للتعبير عن مشاعرهم الوطنية ورغبتهم بمحاربة الفساد بأي وسيلة دون وجود أدلة و جهات تدعم قضيتهم! و لابد من الإشارة ، أنه طالما كان هناك استخدام لأي شكل من أشكال العنف و التحريض، من قبل هؤلاء الأفراد الذين ينشدون التغيير و الإصلاح ، تحت شعار الديمقراطية وحرية التعبير، فعلى هؤلاء الناشطين السياسيين أن يعوا جيداً ، أن جهودهم السياسية سوف تبوء بالفشل وستعود عليهم بمزيد من اليأس و الإحباط، فالسياسة هي فن الإقناع و التغيير بأقل الخسائر الممكنة، والتضحية بالنفس بسبب اعتقادات وأفكار غير مدعومة بأدلة وبراهين، تعتبر من أهم أسباب فشل السياسيين و عدم تأثيرهم على سياسات حكوماتهم أو مشاركتهم في عملية الإصلاح السياسي التي يجب أن تتم بالتدريج وعلى دفعات. فالسياسة ليست مجرد أن تتظاهر بالشارع بشكل عشوائي و تلعن الحكام أو تدعو لاستخدام العنف والانتقام بل هي تكتيكات ذكية و عمل دبلوماسي دؤوب و إجراءات شفافة و أنشطة سلمية من أجل تحقيق الأهداف الوطنية، بشكل قانوني وحضاري، وبأقل الخسائر المادية والبشرية الممكنة في سبيل مصلحة المواطنين. السياسة بكل بساطة ليست لعبة قذرة، بل هي حياة و مصير لشعوب بأكملها. تحياتي. [email protected]