نذكر محاولة الرسول (ص) إثناء ماعز الغامدية عن الإقرار– وهو ما سنلحظه أيضاً في حالة سرقة أخرى عرضت عليه (ص) – وهذا يثير قضية في منتهى الأهمية، تلك هي أنه من الممكن تلافي الرجم والقطع دون أن يكون في ذلك مخالفة للسنة، وأن الأمر ليس كما يحاول البعض إظهاره أنه "حق الله" الذي لا يملك الإمام التصرف فيه. إن إلحاح الرسول عليه الصلاة والسلام في محاولة درء توقيع العقوبة المقدرة.. . "يوضح تماماً أن من سلطة القاضي أن يدرأ الحد بما يمكن أن يثار من شبهات، أو ما يلقيه في روع المتهم من الإنكار أو تلقينه الإنكار صراحة" وهذا تيسير يجب إدراجه في صلب تأسيس أحكام الشريعة. "يلاحظ ان الرسول لم يسأل في حالات الزنى التي عرضت عليه عن الشريك الآخر في العملية الذي يفترض أنه يستحق العقوبة نفسها مما يؤكد ما ذهبنا إليه من الزهد في تطبيق العقوبة" وكذلك نذكر أن الرسول (ص) قال لمن ساق إليه متهما بالزنى: "لو سترته بثوبك كان خيراً لك". وكل قولنا هذا ينبغي ألا يفهم منه أبداً أي تساهل من طرفنا في تحريم المعاصي أو التهاون في توقيع العقوبات على مخالفي القانون، وإنما هدفنا أن يحقق النص الغاية منه مع استصحاب الرحمة والحكمة ومقاصد الشريعة والاصلاح الاجتماعي، وكل هذا لكي نؤسس لمشروع إسلامي حداثي. وهذا عين تكميل الكتاب بالحكمة لأن الأحكام ليست مقصودة بذاتها. وهنا يحضرنا قول المسيح لمن جاؤه بزانية ليرجمها (امتحاناً من فقهاء اليهود له ليروا مدى إلتزامه بالشريعة)، فقال لهم قولته الشهيرة والتي صارت مثلاً: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر". كذلك جاء في كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق تحت عنوان "تلقين السارق ما يسقط عنه الحد" "ويندب للقاضي أن يلقن السارق ما يسقط عنه الحد.. . ". وهذا باب عجيب يوضح مدى التباين بين أحكام الشريعة كأحكام تطهرية وأحكام الشريعة كقانون عام. روى ابو المخزومي أن النبي (ص) أُتي بلص اعترف ولم يوجد معه متاع فقال رسول الله (ص) ما أخالك سرقت. قال بلى مرتين أو ثلاث. رواه أحمد وأبو داؤد والنسائي ورجال ثقات. وقال عطاء: كان من قضى (أي من تولى القضاء) يؤتى إليهم بالسارق فيقول أسرقت؟ قل لا، وسمى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما". وهذا يقودنا للتأكيد على فقه التعزير. وتترك عقوبات الحدود القصوى لمن أراد وأصر على التطهر من منطلقات إيمانية. إذا اعتبرنا الحدود هي الحد الأقصى للعقوبة فهل يجوز تخيير الجاني بين عقوبة التطهير وعقوبة التعزير؟ يقول جمال البنا عن عالم مصري آخر "الحد في جريمة إنما قصد به أقصى العقوبة التي توقع على من يرتكب هذه الجريمة". وقد تحدثنا في مكان آخر عن نصوص الأمر الصريح في القرءان والتي هي متعددة بخلاف التي بنى عليها الفقهاء أحكام المكلفين، ويؤيد قولنا قول ذلك العالم المصري "فهل لنا أن نجتهد في الأمر الوارد في حد السرقة وهو قوله تعالى (فاقطعوا) وفي الأمر الوارد في حد الزنى وهو قوله تعالى (فاجلدوا) فنجعل كلاً منهما للإباحة لا بالوجوب وإن لم يقل بها أحد من المجتهدين السابقين، لأن الأمر كما يأتي للوجوب يأتي للإباحة كما في قوله تعالى "يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)" الأعراف. فإن الأمر في (خذوا وكلوا واشربوا) للإباحة لا للوجوب كما هو ظاهر". ومثل هذه النصوص ذات الصيغة الأمرية كثيرة فكيف صار بعضها للوجوب والبعض الآخر للندب؟ مع أن دلالة الأحكام في الفقه إهتمت بالبنيان النحوي أكثر من إهتمامها بمباني المعاني وروح النصوص. فمن ناحية البناء اللغوي كل هذه النصوص تحمل دلالة الأمر والوجوب فكيف جاز أن جعل بعضها للندب وبعضها للأمر؟ مثلاً في قوله تعالى "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)" العنكبوت. في ذلك أمر لو خضع المسلمين ولو بنسبة بسيطة له لأكتشفوا الكثير من الحقائق العلمية من زمن بعيد. أو كآية الدين وكتابته لو التزم بها المسلمون بإعتبارها أمر كامل لأسسوا نظاماً مصرفياً من زمن بعيد. و"ذهب بعض فقهاء الخوارج إلى إنكار الرجم في الزنى لأنه لم يرد به نص في القرءان الكريم بل نص فيه على الجلد فقط". ويؤيد هذا القول عقوبة غير المحصن الواردة في القرءان والتي هي نصف عقوبة المحصن. فكيف نعاقب بنصف الرجم؟ ويؤيد ذلك أن آية الرجم كانت موجودة فنسخت تلاوة فلماذا لم تنسخ حكماً؟ وهي عقوبة بالغة الخطورة. لعل السارق هو من إعتاد السرقة حتى صارت صفة له فسمي سارق والزاني هو من إعتاد الزنى حتى صار صفة له فسمي زاني. "قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره – المسألة الخامسة – قال الشافعي أغرم السارق ما سرق وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق لا يجمع بين القطع والغرم فإن غرم فلا قطع وإن قطع فلا غرم.. . وذكر مذهب القائلين بأن التوبة قبل الحد تسقط الحد وذكر حجته". وهذه المباديء الواضحة في تطبيق الأحكام تعطي الضوء لمنهجية جديدة في تخريح الأحكام وتطبيقها. تبعد عن الإسلام تهمة التعسف والقسوة، هذا والله اعلم. [email protected]