ما نطرحه في هذا المبحث هو ملخص لرؤوس مسائل تعرضنا لها في مواضع أخرى ومن عدة مداخل، ونريد لها أن تكون القاعدة لعالمية فكرية إيمانية كونية جديدة تجمع بين كل أبعاد الوجود، تجمع بين وعي الغيب ووعي الشهادة. ولقد تحدث كثيرون عن هذه العالمية الموعودة وبشروا بها وسنتتطرق لبعضهم في سياق حديثنا هذا. وها نحن في هذا المبحث قد لخصنا ورتبنا وأجملنا الأفكار التي نثرناها في الكثير من كتبنا المنشورة وغير المنشورة وذلك بهدف اعطاء صورة أكثر وضوحاً وتحديداً لما يجول في خاطرنا من أفكار ونظر. وقد يلاحظ القاريء شيئاً من التكرار في هذا المبحث قصدنا به تمتين الفكرة وتوضيحها في سياقاتها. عالمية الإيمان الأولى أسست لها المسيحية بعد رفض إسرائيل القديمة لدعوة المسيح. وعالمية الإيمان الثانية أسس لها الإسلام الذي أكمل العالمية الأولى وثبت أركانها بتصديقه بها. وما نعيشه اليوم نتاج للعالمية الأولى وهي عالمية لم يسبق لها مثيل قامت على ثلاثية الحضارة الغربية وهي الفلسفة الإغريقية والدولة الرومانية والديانة المسيحية. إنها عالمية تقوم على الحداثة والتي بدأت الآن حركة واسعة لنقدها في محاولة لتلافي قصورها والخروج من مأزقها المادي. العالمية القائمة اليوم تحتاج لفكرة روحية تكون انطلاقة لعالمية الإيمان الثالثة وهي عالمية لا بد لها أن تجمع بين العالميتين السابقتين (المسيحية والإسلامية) في إطار العلم والفكر وليس في إطار العقائد. حينها يستقيم العلم والفكر وبهما تستقيم العقائد. العالمية التي نتحدث عنها هي عالمية فكرية وليست دولة أو امبراطورية. إنها عالمية تقوم على الوحدة التعددية وتقوم على الإيمان والأخلاق والسلام والوحدة لتكون فيدرالية عالمية للسلام والتوحيد علي نسق الفكرة التي طرحها الدكتور مون مؤسس فيدرالية السلام العالمي. البعد العالمي لفكرة الإسلام في مستوى القرءان في نموذجه المكي يمكن أن يكون قاعدة جيدة لطرح مستوى فكري وروحي جديد يقدم الدعم الروحي للحضارة الحديثة أو على أقل تقدير يعطي النور للعالم الإسلامي لكي يتقدم للأمام في مشروع جمعي توحيدي عالمي يكمل المشروع الغربي القائم. "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)" البقرة. فلعلنا بدل أن نتحارب ونتصارع نلجأ للتنافس السلمي في خدمة الإنسانية يقول الحاج حمد: "الإختبار الحقيقي على محك التجربة البشرية الواسعة لما ندعو إليه في إطار تصور كوني جديد. إن ضرورة تفاعلنا مع كل خبرات العالم الفلسفية ليست بغرض تجديد الدين الإسلامي في إطار مشكلات العصرنة المحلية ولكنها ضرورة لطرح ما لدينا على بساط العالمية الشاملة على مستوى الإنسان المعاصر، الذي يحلق فوق الحدود بكل مقوماته الحياتية الجديدة" التمهيد لعالمية الايمان والتوحيد (2) بالرغم من مقولة ما بعد الحداثة بأن كل الحلول محلية وبالرغم من كفرها بالروايات الكبيرة الا ان الإنسانية اليوم تجاوزت ضيق الأطروحات المحلية والإقليمية، فحتى الحلول المحلية لا يمكن أن تطرحها الا في إطار ابعادها الكوكبية إذ صارت جميع أجزاء كل العالم شديدة التأثر ببعضها البعض. وهكذا يزيد الحاج حمد الأمر توضيحاً بقوله: " كل تجديد يعتمد على خصوصية الوعي المحلي ليس سوى تجديد أعرج وقصير النفس في عمر الزمن، بقدر محدودية المكان الذي ينتمي إليه. وهكذا نرى أن البديل يجب أن يأتي "عالمي الإطار والمحتوى. مستوعباً بالوعي لمقومات العلمية المعاصرة وقادراً على النفاذ فيها والتفاعل معها". فكل ما ذكرناه آنفاً يؤكد دعوانا للحاجة لطرح عالمية إيمانية يلتف حولها جميع أهل الإيمان في نسق تعددي عام وجامع وهي ما أسميناه عالمية الإيمان والتوحيد والسلام. وهي عالمية تتجاوز حقبة الرأسمالية والشيوعية لتبشر بفجر جديد. والكثير من نقاد الحداثة ونقاد الشيوعية يدعون لمثل دعوتنا ولو من منطلقات مختلفة ولغايات مختلفة. يدعو د. هشام عمر النور لتجاوز الفكر الشيوعي (التقليدي)، ويطرح التعددية كبديل للفكر الواحد، خصوصاً في السودان، كحل لمشاكله ديمقراطياً من أجل مواصلة "مشروع التحرر الإنساني" ثم يضيف مؤكداً: "بغير ذلك سيظل مشروع التحرر في بلادنا عالقاً في أزمته الراهنة إلى أن يتقدم البديل الذي يملأ هذا الفراغ أو تحدث كارثة". وها نحن نقدم خطوط عريضة وموجهات وتأملات لما يمكن أن يكون نقطة انطلاق لمشروع فكري عملاق نتجاوز به مرحلة الشيوعية والرأسمالية، جامعين بين المثالية والواقعية. وبذا نطرح أممية كونية جديدة تأخذ كل ما تراه صحيحا من كل الفكر الإنساني من غير استثناء. لقد قامت العالمية الكبرى، التي لم يسبق لها مثيل، وهي حضارة اليوم على العقل والعلم والنقد والتحليل والإستقراء من دون أي واجهة دينية وإن كانت تستبطن المسيحية، وكل ما تحتاجه هو المحتوى الفكري الروحي، وهي مفتوحة لكل من يأنس في نفسه الكفاءة لملأ ذلك الفراغ. فالمشروع ليس مطروح فقط للمسلمين وإنما لكل الإنسانية. بل في حقيقة الأمر نلاحظ ان العالم الإسلامي اليوم هو أضعف حلقات التطور الذي يسود العالم اليوم. وفي هذا الإطار يقول الحاج حمد: "أما عالمية اليوم فهي عالمية غير إسلامية. وتحتوي الشعوب الإسلامية وتتحكم في مجريات تطورها وفي الصياغة العامة لخياراتها". إن وضع العالم الإسلامي اليوم كوضع أمة اليهود قبل ألفي عام حين ظهر فيهم المسيح. كانوا مجرد مجموعة صغيرة في إمبراطورية رومانية مترامية الأطراف وبالغة القوة العسكرية والثقافية جمعت بين مدنية روما وفكر الأغريق. التمهيد لعالمية الايمان والتوحيد (3) ان الحضارة العالمية التي تسود العالم اليوم لا رجعة فيها وهي من القوة ومن السعة بحيث يصعب انتاج أي مشروع (في بعده العملي الأرضي) إلا من داخل رحمها: "إن كل خبرات العالم الفلسفية وثقافاته وأديانه تطرح نفسها في أحشاء هذه العالمية وتندمج مع وحدتها العضوية. وبالتالي ليس ثمة بديل خارجها، فالبدائل المحلية تنزوي بإنزواء المحلية نفسها في العالمية ضمن مرحلة التحول التاريخي التي بدأت منذ قرن ونصف". في طرحنا للعالمية الثالثة ومن منظور إسلامي يكون من الطبيعي أن نعتمد على النص القرءاني مضافاً إليه النص الديني كله. ولذلك يقوم تصورنا على التسليم ببعض الأمور الدينية خصوصاً النص المقدس ويقوم على شيء من الحدس والتأمل وكثير من المنطق والتحليل والمقارنة والإستقراء. قدم الأستاذ محمود محمد طه تصورات إسلامية لما يمكن أن نسميه "مجازاً" عالمية إسلامية وقد أسماه "الرسالة الثانية من الإسلام"، حتى إن البعض اتهم ابو القاسم حاج حمد بأنه اقتبس فكرة الرسالة الثانية لينسج على منوالها العالمية الثانية ولكن حقيقة الأمر أن لكل منهما منهج مختلف ومدخل مختلف لمناقشة مسألة العالمية الدينية. فالأستاذ محمود يبني رسالة الإسلام الثانية على ما أسماه "أصول". يقول الأستاذ: "الإسلام رسالتان رسالة أولى قامت على فروع القرءان ورسالة ثانية تقوم على أصوله". وهذه الأصول بحسب قول الأستاذ هي ما جاء به جميع الأنبياء "بالإسلام جاء جميع الأنبياء من لدن آدم وإلى محمد". وهي ما يقوم جوهره على الإيمان والتوحيد "لا إله إلا الله". وكذلك يقول الحاج حمد في نزعة عرفانية صوفية: "حزمت نفسي بالقرءان، محاولاً الوصول إلى (مجمع البحرين)، سابحاً من الزوايا المحددة في الرؤية الوضعية للأمور، إلى نقطة التلاشي الغيبية". ولكن الحاج حمد يستدرك حزمه ذلك بسؤاله عن النسبي والمطلق في القرءان الكريم (وهو تقسيم يشبه الأصول والفروع عند الأستاذ محمود) وكيفية تنزيله في عالمية جديدة: "فما هو المطلق والنسبي في القرءان؟ أم أن القرءان نفسه يعطي معنى آخر للإستمرارية خارج دائرة المطلق والنسبي؟ وبمعنى آخر ما هي نظرة القرءان وكيفية تعامله مع المتغيرات الجذرية في عالم الفكر والحياة؟ إلى أي الحدود يمكن التجديد في طرح القرءان طرحاً جديداً كبديل حضاري أمام البشرية كلها؟" إن العالمية الإيمانية الجامعة التي نطرحها تقوم على مفاهيم القرءان وتصوراته العالمية الجامعة المتضمنة للآخر والمتصالحة معه. وكذلك تقوم على نوع من التمييز بين المطلق والنسبي وبين الأصول والفروع، بين ما هو خارج التاريخ وما هو داخل التاريخ. وبذلك فهي تتباعد في مرجعيتها عن تصورات التأسيس وأحكامه. يقول طه جابر العلواني في تقديمه لكتاب العالمية الثانية لمحمد أبوالقاسم حاج حمد: "فالإسلام بهذا المعنى هو الدين العالمي الذي يتجاوز الديانات التاريخية المحلية ويطورها باتجاهه، أي إتجاه الجوهر الأصل للدين متمثلاً بالحنيفية الإبراهيمية". وقد اشار المقدم إلى أن قضية الكتاب هي المنهج. قضيته هي ضرورة ظهور منهجية تمكن الإسلام من عالمية ثانية بها يظهر الدين على الأرض وبها تسود كلمة الله مرة أخرى على الأرض وبها تبدل الأرض مرة أخرى ليتحقق قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)) التوبة. التمهيد لعالمية الايمان والتوحيد (4) تقوم منهجية عالمية الأستاذ المفكر القدير أبو القاسم حاج حمد على الجمع بين القراءتين وعلى رفض النهايات التي قادتنا إليها الفلسفات الوضعية الحديثة ثم توظيف ما يراه صالحاً من مناهجها لتقديم فهم جديد، وهذا عين ما رأيناه وشرحناه في كتبنا السابقة. وبذلك يكون عملنا هذه تصديقاً وتأكيداً لما قام به. بل أوضحنا بضرورة قراءة الغيب بوعي الشهادة والتجربة، وقراءة الشهادة بوعي الغيب، ثم فصلنا في قرءاة الغيب عبر القرءان بإعادة القرءاة الكاملة قراءة حداثية لكل النص المقدس (النص الإبراهيمي). لقد أعلن الأستاذ محمود بأن الإسلام "دين الخلائق جميعها" ويؤيد قوله بالآية الشهيرة: "أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)" آل عمران. وهكذا يضع الأستاذ الثلاثية الإبراهيمية في مركز أطروحته لرسالة عالمية ثانية للإسلام. خلاصة فكرة الأستاذ في رسالته الثانية من الإسلام تقوم على الخضوع التكويني لكل الخليقة لله وبذلك تتسع فكرة الأستاذ لتشمل كل الكون ببعديه الروحي والمادي وهو عين ما تحدث عنه الحاج حمد لاحقاً بقوله بجدلية الغيب والشهادة. ولعل توقعات الأستاذ مستقبلية روحية لها توقعات قيامية لأنه أورد الآيات: "يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)... وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)"طه لقد حاول الحاج حمد كذلك أن يمهد لرواية كبيرة جديدة تقوم على تصورات دينية بشكل ما، وبالرغم من قول ما بعد الحداثة بنهاية عصر الروايات الكبيرة. إلا أننا نقول بأن هذا القول هو قول الحداثيين الماديين الذي أزعجهم وقض مضاجعهم إنهيار الإتحاد السوفيتي وانهيار النظرية المادية الشيوعية. لا شك أننا نريد ونسعى لتقديم بدائل تقوم على عالمية تتجاوز المحلية وتتجاوز إشكالية عنصر الزمان وضرورات التطور والتغيير. لا بد لنا من التفكير في رؤية عالمية لها ثراء في رؤيتها للعالم وغنية في خبرتها به. وكما أشرنا في كتب أخرى فإن جدلية النفي والإثبات التي قال بها هيجل وأيده فيها ماركس تحتم ظهور حركة فكرية جديدة تجمع بين "الاثبات الذي ادعته الشيوعية" و"النفي الذي دمغت به المثالية التي قال بها هيجل". وهكذا ينتج عن ذلك نظرة جديدة لعالمية فكرية جديدة ذات توليفة طبيعية تلقائية تجمع بين الفكر المثالي والفكر الواقعي. يقول د. هشام عمر النور في تجاوزاته للماركسية: "هذا لا يعني نفي الماركسية نفياً مطلقاً وإنما نفيها ديالكتيكياً طبقاً للقوانين التي أنجزتها هي نفسها ومن قبلها هيجل". يتم هذا البناء المعرفي الجديد، المتجاوز لجدلية المادية والمثالية، على قاعدة من تراكم المعرفة الإنسانية في كل المناحي بما في ذلك المعرفة الدينية في كلياتها مضافاً إليها معارف العلوم الحديثة وكذلك ما يعرف بالروحانية العلمية. وبذلك تنطلق عالميتنا نحو آفاق مستقبلية جديدة مستفيدة من كل تجارب الإنسان ومعارفها. مستفيدة من تصويبات وعيها ومقومة لأخطاء مسيرتها في تواضع للحقيقة من أي مكان أتت وبفهم للواقع وقبول للنقد البناء والتصويب المستمر حتى يستقيم عودها ويرتفع بنيانها. "إن تأليف وتركيب التعميمات الفلسفية والمعارف الجديدة لا يتم إلا بنقدها جميعاً ومن ثم الوصول إلى موقف فلسفي جديد يقوم على منهج جديد يستوعبها جميعاً". عبد المؤمن ابراهيم احمد [email protected]