إن الأحداث الأخيرة بين قبيلتي الكبابيش والحمر وقبلها جملة من الصراعات القبلية الدامية تطرح جملة من الأسئلة ليس حول دورها في الحياة الاجتماعية، لكن في الصراع السياسي الذي أخذ يحتدم في كل يوم بين المكونات الاجتماعية في إطار الاستحواذ على الموارد ومراكز صنع القرار السياسي والهيمنة. وتاريخياً فإن القبائل لم تكن بعيدة عن السياسة، فلقد شاركت في الثورة المهدية كأول تمرين وكان لها القبلة من الجمعية تشريعية في 1948م. ويجب الإقرار بأن القبيلة والطائفة بأنها جزء أصيل من مكونات الواقع في تضاريسه المختلفة ، ولاستطيع أي جهة مهما امتلكت من القوة أن تشطبها بقرارات أو أوامر إدارية. والتأكيد بأن القبيلة والانتماء إليها ليس اختياراً شخصياً ولا يولد الإنسان ولديه ميول قبلية ولا ينبغي التركيز على سلخ الانتماء القبلي للشخص بالقوة. وهذه مسألة تحل وتعالج عندما تتوفر ظروف تساعد الإنسان على الافتخار بالانتماء للوطن الكبير وليس الإنزواء فرعيات، وإن تحقيق العدالة وانتشار الوعي والانفتاح على الآخر يؤسس لخريطة اجتماعية جديدة تقوم على التسامح وتسمح بالتعايش. كذلك يجب ألا يؤخذ مفهوم القبيلة بأن كله شر وآفة اجتماعية فهي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي ولقد عبرت عن مرحلة تاريخية من تطور المجتمع البشري في التنظيم والإدارة وإن بقاءها حية إلى اليوم يعبر بشكل دقيق بأن هذه المجتمعات لا زال يتوفر فيها الأساس المادي لاحتضان هذا النسق الاجتماعي وما لم تنتفي هذه المقومات فإن القبلية سوف تظل إحدى الكائنات الاجتماعية الفاعلة ويصعب إلجام طموحاتها العابرة للأمكنة والأزمنة. اللوحة في بلادنا تتسم بالتعقيد لتعدد القبائل وأنماط الإنتاج وعلاقاته وتتصاعد نبرة الهويات الصغيرة التي لا تعترف بمبدأ التعايش السلمي ولا ترى أيضاً في إقصاء الآخرين خرقاً للحقوق الأساسية وهذا لارتباط الهوية بالسلطة والثروة وعلى الآخرين التماهي مع توجهات القوى النافذة والاعتراف بالمركز الواحد الذي يوزع صكوك الأرزاق. إن للقبائل مواقف مضيئة في النضال ضد الظلم والاستبداد والاستعمار وسجل التاريخ بطولات للنوير والفور والحلاوين ...الخ. ويبقى توظيف إمكانيات القبلية هي القضية المحورية في تحديد إذ ما كان الدور ايجابياً أو سلبياً. إن الصراعات والنزاعات القبلية كانت تدور حول محوريين أساسيين وهما الأرض، الحواكير ومفهوم السيادة والقيادة في هذه الرقعة الجغرافية والتي تتسيد عقلية الامتلاك المطلق والتي تتعارض مع مبدأ الانتفاع العام للجميع المواطنين في الدولة الواحدة، وهذا الطور الجنيني لبداية المشاكل والذي جسده "الحق المطلق" للأراضي والزعامة. وهذه الروح بدأت تنمو وتزداد عمقاً مع عقلية التجزئة والتي لا ترى الوطن إلا إقطاعيات متناثرة وكانتونات صغيرة ، ومع هزال الدولة التقليدية وضعفها وفشلها المزمن في الاعتراف بالمكونات والمواطنة المتساوية وانحيازها بشكل سافر لمجموعات ضد أخرى. كل هذا شكل مناخاً لبروز ظاهرة القبلية في شكلها الاستعلائي والعنصري. وهذه تأتي كردة فعل حقيقية لترهل وتفكك الدولة التقليدية وعجزها حتى في حماية نفسها واستعانتها بالمليشيات القبلية لتداري انهيارها المحتوم. هذا الواقع وبمستجداته لم يترك خيارات للمواطنين سواء في البحث في جذورها التي اعتراها القدم والاحتماء بالقبيلة بعد أن قضت الدولة على أي أشكال لمنظمات المجتمع المدني. وبالمنطق فإن الدولة وهي في هذه الحالة من الوهن، لا تستطيع أن توفر لك الأمن والحماية ولا تستطيع أن توفر الخدمات من تعليم وعلاج وطرق ومياه صالحة للشرب وكهرباء، ولا تأتي لك في مناسبة اجتماعية أو تساهم في دية وتعتبرك أنت استثماراتها، فأين الدولة في حياة المواطن العادي، وماذا تعني غير الجبايات والرسوم واستعراض القوة من منظور المواطن. إن القبلية في أكثر أجزائها عنصرية كانت في طريقها للاضمحلال بفضل التعليم والتنقل والمدنية. وانتماء المواطنين في مواعين أكبر اتساعاً وتنوعاً كالأحزاب والنقابات والأندية...الخ. كل هذه العوامل لعبت دوراً في خلق وعي جديد للقبول بالآخر وتقديم التنازلات لمصلحة التنوع والتعدد، ولكن عندما استفحلت أزمة الدولة التقليدية وتراجع دورها في الإيفاء بوظائفها المختلفة، عادت القبلية من جديد ولكنها في هذه المرة أكثر شراسة وعنصرية. وأصبحت ظاهرة اجتماعية واسعة الانتشار وأكبر مهدد للنسيج الاجتماعي والوحدة وهي مدعومة بجهاز الدولة الذي يلعب على التناقضات وسياسة فرق تسد. وخاصة عندما توزع الحقوق والخدمات والوظائف على أساس الانتماء العرقي والجهوي ويصبح عرقك ولونك هي مصادر شقاءك أو سعادتك. إن الإحساس بالدونية وعدم المساواة تهزم فكرة الانتماء الحقيقي للوطن في زمن أصبح فيه مفهوم السيادة مفهوماً عابراً للجغرافيا. ومع عدم العدالة في كل يوم يصبح الوطن ليس الجغرافيا وإن الهجرة والنزوح والتهجير القسري كلها تعابير عن هذه المعضلة التي أحدقت بموضوع الانتماء. وفي هذه اللحظة المفصلية من تاريخ الدولة السودانية يصبح الحديث عن إقامة الدولة المدنية الديمقراطية أكثر إلحاحاً وضرورة مجرد أمنيات ولغو. في ظل هذا الواقع الذي يتنفس بالعنصرية والكراهية والروح القبلية . على الرغم من أن الروح القبلية تتعارض مبدئياً مع أي حديث عن المواطنة المتساوية، ولكن هذا لايعني رمي الراية وإعلان الاستسلام لهذا الواقع المخزي. وعندما نقول في بعض الأحيان بأن التطور في بلادنا يسير في شكل دائري فإن الاستنتاج ليس فيه تضخيماً أو مزيدة فأجواء اليوم وفي الألفية الثالثة لا تختلف كثيراً عن الظروف التي جرت فيها انتخابات الجمعية التشريعية في1948م وتركيبة القوى الاجتماعية التي أتت بها. واليوم يصعب الحديث عن أحزاب برامج ومشاريع يمكن أن تكون مداخل للعمل السياسي. لا يمكن تجاهل الرايات والأوزان القبلية الجامحة نحو السلطة وهذا بلا شك يلحق أضراراً بالمشروع الوطني ما لم تولَ قوى التغيير هذه الاعتبارات وزنها في النقاش. الميدان