اذكر جيدا ما حدث كأنه البارحة.. في يوم 30 يونيو 1989م صباحا.. ضربت الارض القاسية بمعولي.. ازلت بعض الاتربة والحجارة الصغيرة.. تعمقت اكثر نحو الاسفل.. كل ما أنجزته حفرة صغيرة حولها حوض لحفظ الماء.. ثم وضعت عليها شتلة صغيرة لشجرة (دقن الباشا).. أهلت التراب علي قاعدتها وثبته بيدي.. وغمرتها بالماء شعرت حينها ان الشتلة شربت وارتوت وتنفست الصعداء.. ثم شرعت في بناء من الطوب الاحمر حولها لصونها والحفاظ عليها من الدواب والاطفال.. طلبت من الله ان يتولاها بالرعاية والعناية .. بعدها بساعات اذاعت الاذاعة النبأ العجاب وكرر التلفزيون الخبر الفجيعة فكان عمر البشير يقرأ من ورقة باهتة بيان ثورة الانقاذ الأول.. لم يتوارد الى ذهن العبد الله ان ثورة الانقاذ ستاخذ بيد البلاد والعباد الى حيث الهلاك والجوع والتشرد على نحو عجز ذهني المتواضع عن تصوره.. بعد اذاعة النبأ اطلقت على هذه الشجرة اسم (شجرة الانقاذ).. تيمنا بثورة ظننت ان رئيسها سيعيد سيرة الخلفاء الراشدين خشوعا وعدالة.. ورجالها الاخرون سيكررون المشاهد الناصعة للصحابة الكرام في الزهد والتقوى وسيضربون المثل في التقشف والتجرد وسيكونون قدوة في الورع ونكران الذات.. قبل ان استبين - كما العامة - انهم مثل الضباع جعلوا الوطن غنيمة واكلوه قبل ان يموت.. سافرت الى مصر للدراسة وتركت (شجرة الانقاذ) في ذمة الله ورعايتة.. اما والدي فتعهدها بالمتابعة والصون والسقاية .. ففي كل مرة احضر الى السودان وقت الاجازة اجد الشجرة تكبر وتسمق.. وهكذا صارت (شجرة الانقاذ) شجرة كبيرة ومتعارف عليها بهذا الاسم بين الخاصة.. ايها السادة كانت (شجرة الانقاذ) مراة (لثورة الانقاذ) نفسها فكلما توغل الفساد تحت سمع وبصر الكافة.. ينعكس الحال بالتالي عليها انعكاسا بيّنا لا لبس فيه.. اضمحلت اغصانها واضحت جافة ومتيبسة.. اما اوراقها ذبلت وتبخر ماءها ومالت نحو الاصفرار.. اما عن ظلها الظليل حدث ولا حرج.. فعندما تجلس تحتها كانك تجلس في العراء (الصقيعة) تحت اشعة الشمس مباشرة.. ربطتُ ما الت اليه (شجرة الانقاذ) من الضمور والهزال والمرض وبين الفساد والمحسوبية المستشري في دواوين الحكومة.. وبين تاريخ غرسها (المنيل بستين نيلة) في 30 يونيو.. وبين تسميتها بهذا الاسم الشؤم.. ايها السادة: الحقيقة فكرت باستئذان والدى بقطع (الشجرة العبوس) ليس قطعا عاديا بل قطعا من الجذور (ام بحتي).. فطالما الفساد متسيد الساحة فلن تقوم لشجرة الانقاذ قائمة.. كما وضعت في الحسبان ألا فائدة ترجى منها وان منظر فروعها العارية جعل شكلها اقرب لرؤوس الشياطين.. اضف انها بلا ظل ولا ثمار بها.. وليس لها منظر حسن يسر الناظرين.. بل اتهمتها في احيان كثيرة بانها تسبب الحساسية لجار عزيز.. كنت احس ان قطع شجرة الانقاذ سيزيل (الكجور) الجاثم على هذه البلاد الطيبة.. وان البلاء والمعاناة ستزولان ايضا وعلى وجه السرعة.. وسيتبدل الحال من مسغبة وجوع الى شبع وغنى.. ومن بؤس وضنك الى رفاهية ودعة.. وان الانقاذ ستذهب (بالسيرة والزفة) الى مزبلة التاريخ نسيا منسيا.. ويظل الشعب الخاشع الورع متسيدا زمام امره.. حرا ابيا معززا مكرما.. كانت قناعتي الذاتية تحدثني ان (شجرة الانقاذ) التى زرعتها و(ثورة الانقاذ) التي زرعها الترابي.. عمرهما واجلهما واحد لايزيد ولا ينقص.. ومماتهما الحتمي سيكون بذات التاريخ.. ويلوح بخاطري اننا كلما عجلنا بنهاية الشجرة.. سنعجل بقطع دابرالثورة التى يتمدد كرشها كل ليوم ليبلغ خيرات الوطن بنهم ودون فزع او وازع.. لكن حالة والدي المرضية المتاخرة لم تسمح لي بطرح ما ذهبت اليه.. لذا اثرت التروى للوقت المناسب.. فوالدي رجل يحب الاشجار ويستأنس بها.. فقطع شجرة يعني تفاقم المرض عليه.. واذكر انه زرع عدد كبيرا من الاشجار في جوبا ابرزها شجرة المنقة الهندية التى تتوسط باحة مسجد نمرة 3.. يصلي تحتها المصلون اوقات الظهر والعصر.. من شدة ضخامتها وانتشار فروعها تُسند بالعيدان والخشب والمروق حتى لا تتساقط اغصانها وثمارها.. توفي والدي الى رحمة الله.. ولم يمض شهر واحد حتى ماتت بعده (شجرة الانقاذ) غير ماسوف علي شبابها واستحالت هيكلا بلا اوراق او خضرة .. ذهبتْ سويا مع والدي الى السماء .. زرعت شجرة لبخة في مسجد القلابات جعلت اجرها له خلتها ستعيش ذروة حياتها كما منقة مسجد (حي نمرة 3) .. لكن مع الاسف الشديد لم يكتب لها سوى عمر قصير وماتت .. (هاشم موسى) رحمه الله هو احد الذين استدان منهم الزعيم اسماعيل الازهري من اجل بناء منزله الكائن في ام درمان.. (هاشم موسى) عاش في مدينة ملكال عيشة هنيئة رضية.. كان صديقا ودودا لوالدي.. عندما توفى اقنعتُ ابنته (ا) بان تزرع له شجرة.. ذات يوم اتصلتْ على ابنته ومنحتني مبلغا لشراء شجرة جَعَلَتْ اجرها وثوابها لوالدها المتوفي وطَلبتْ منى ان ازرعها في المكان الذي اختاره انا.. زرعتَ شجرة (هاشم موسى) امام بيت جارنا ابراهيم المقابل لمنزلنا مباشرة.. في صبيحة اليوم التالي وجدت جاري ابراهيم الرجل الصوفي يسقى الشجرة التى زرعتها بالامس.. قال لى انه وجد هذه الشجرة مزروعة امام منزله وان وراءها (سر) باتع وعظيم وبها بركة ستعم الانحاء.. هكذا دائما ما يقول المتصوفة.. تعهدها جاري ابراهيم بالماء والمحافظة والسماد.. ايها السادة تعمدت الا ازرع شجرة (هاشم موسى) بتاريخ 30 يونيو حتى لا يصيبها ما اصاب (شجرة الانقاذ).. فالمؤمن كيس فطن.. والمؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين.. الان شجرة (هاشم موسى) صارت كبيرة ووريفة ترمي ظلها يمنة ويسرة.. وعلى اغصانها الندية تغرد عصافير الكودي والقمري.. ويتسلقها النمل الباحث عن الرزق والنعيم.. ويلجأ الى ظلها كل من يبحث عن ملجأ يقيه هجير الشمس وقهر الحرارة.. النذير زيدان