أمجد فريد الطيب يكتب: اجتياح الفاشر في دارفور…الأسباب والمخاطر    الكابتن الهادي آدم في تصريحات مثيرة...هذه أبرز الصعوبات التي ستواجه الأحمر في تمهيدي الأبطال    شاهد بالفيديو.. وسط دموع الحاضرين.. رجل سوداني يحكي تفاصيل وفاة زوجته داخل "أسانسير" بالقاهرة (متزوجها 24 سنة وما رأيت منها إلا كل خير وكنت أغلط عليها وتعتذر لي)    شاهد بالصورة.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تشعل مواقع التواصل الاجتماعي بأزياء قصيرة ومثيرة من إحدى شوارع القاهرة والجمهور يطلق عليها لقب (كيم كارداشيان) السودان    من سلة غذاء إلى أرض محروقة.. خطر المجاعة يهدد السودانيين    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    تفشي حمى الضنك بالخرطوم بحري    بالصور.. معتز برشم يتوج بلقب تحدي الجاذبية للوثب العالي    المخدرات.. من الفراعنة حتى محمد صلاح!    خطف الموزة .. شاهدها 6 ملايين متابع.. سعود وكريم بطلا اللقطة العفوية خلال مباراة كأس الأمير يكشفان التفاصيل المضحكة    لولوة الخاطر.. قطرية تكشف زيف شعارات الغرب حول حقوق المرأة    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    مدير شرطة ولاية القضارف يجتمع بالضباط الوافدين من الولايات المتاثرة بالحرب    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    توجيه عاجل من"البرهان" لسلطة الطيران المدني    جبريل إبراهيم: لا يمكن أن تحتل داري وتقول لي لا تحارب    حركة المستقبل للإصلاح والتنمية: تصريح صحفي    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    لماذا لم يتدخل الVAR لحسم الهدف الجدلي لبايرن ميونخ؟    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    مكي المغربي: أفهم يا إبن الجزيرة العاق!    موريانيا خطوة مهمة في الطريق إلى المونديال،،    ضمن معسكره الاعدادي بالاسماعيلية..المريخ يكسب البلدية وفايد ودياً    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كان للثقافة دار أمام القصر الجمهوري ..
نشر في الراكوبة يوم 30 - 07 - 2017

لا أدري أين راحت تلك الدار ومن يحتلها الآن من الهيئات والمؤسسات أو الأفراد ولكنني أطلب من الذي له علم بما حدث لهذه الدار أن يضيف لهذا المقال هامشا صغيرا يوضح ما صارت إليه تلك الدار.
كانت تقع على شارع الجامعة خلف وزارة التجارة (القائمة حتي اليوم) ويفصلها عن القصر الجمهوري عرض الشارع (أي عشرين مترا بالتقريب).ويقابلها على ضفة الشارع الآخرى الكنيسة الانجليكانية الملحقة بالقصر والتي تحولت مع الأزمان إلى شيء آخر لا أدري كنهه ومن جديد أطلب من المحرر أن يفيد.
كانت بناية كولونيالية صغيرة على هيئة من الجمال المعماري بلونيها الأبيض والأحمر الداكن وحديقتها الواسعة ذات النجيل الأخضر، كانت هي المنتدى الحقيقي إذ كانت مقاعدها تخرج في العصاري في الأيام العادية وتنتظم في حلقات حول مناضدها الخشبية أو تنتظم في صفوف متلاصقة حين يكون هنالك محاضرة أو ندوة .
داخل الدار كان هنالك عدد من الغرف- ثلاثة أو أربعة وصالة واسعة مؤثثة بكراسي فوتيل أي من النوع الواسع العريض وأرائك من نفس الطراز ورفوف وزجاجيات وكانت المكتبة في أحدى تلك الغرف وهي مجموعة من المراجع غير القابلة للاستلاف.
أخذني إلى تلك الدار صديقي وتوأم روحي الأستاذ عثمان سنادة الذي اشتغل لاحقا بالصحافة تاركا كتابة القصة التي كان شديد البراعة فيها
قال لي: ستنعقد ندوة لمناقشة ديوان "أصداء النيل" لعبد الله الطيب
قلت أين؟
قال في دار الثقافة
قلت أين هي دار الثقافة؟
كان سنادة يمتاز عنا جميعا بحبه للمشي وإسراعه فيه حتى ليصعب علينا نحن أصدقاؤه الكسالى أن نماشيه فبعد الخطوات الأولى تجد أنه صار يتقدمك وتضطر لرفع صوتك ليسمعك وحين تتمدد المسافة بينك وبينه بسبب من خطواته الواسعة وغرامه بالاندفاع عملا بالحكمة العمرية القائلة: الرجل إذا مشى أسرع وإذا تكلم أسمع، فإذا به قد وقف ينتظرك على سبيل الرحمة لك والرأفة بك وهنالك تتبادلان عتابا من نوع:
- طاير كده لاحق شنو؟
فيقول: لستم شبابا وأنتم تقدلون هكذا.. الشاب من يمشي مشيتي هذه.
لا أذكر أين التقينا ولكننا وصلنا دار الثقافة معا واخترنا مقاعدنا في وسط الجمهور الذي راح يتقاطر على الدار.
كان هنالك محمد محمد علي الشاعر الناقد ومعلم اللغة العربية في الثانويات يقابله أو يشاركه التقديم الأستاذ كمال شانتير المحامي وكان واحدا من أبرز الوجوه الثقافية لزماننا.
هاجم الأستاذ محمد شعر عبد الله الطيب واتهمه بالصنعة وتقمص الشعراء القدامى والنسج على منوالهم بصورة أفقدت شعره صفات المعاصرة والتعبير عن المجتمع الذي يعيش فيه
ولم يكن شانتير أقل عداوة لذلك الشعر فقد قال عنه إنه لا يعبر عنه ولاعن جيله وأنه لذلك لا يهمه في شيء ولا يعنيه.
نهض رجل عظيم الهامة يرتدي بذلة كاملة (دبل برس) ويحمل عصا ثقيلة ضخمة الكراديس (اتضح فيما بعد أنه السيد إسحق الخليفة شريف) وقال كلمات لا زلت أتذكر بعضها فمنها قوله إن الشاعر يعبر عن النفس والنفس ظلام تنبعث منه جميع الأنوار! والشاعر ليس ملزما بالتعبير عنك أو عن جيلك أو جيل آبائك وختم حديثه قائلا: أما قلة أدب!
ونهض للدفاع الشاعر الكبير محمد المهدي مجذوب ولا أتذكر حجته في ذلك الدفاع ولكن الأستاذ محمد محمد علي عزاها إلى القربي بين المجذوب وعبد الله الطيب وكان يقول للمجذوب أنت وابن عمتك لا تستطيعان ...لا تفعلان أو تتركان وكان عليه سيماء الغضب بينما كان المجذوب هادئا وساخرا وأحيانا غير جاد. وفي اليوم التالي انتقلت المعركة إلى صفحات جريدة الثورة التي كان يرأس تحريرها الأستاذ عبد الله رجب وكانت سخية بصفحاتها فقد كانت تصدر في ثمانية صفحات من القطع الكبير وكان الباعة الصغار يسومونها في الأسواق صائحين: البرش بقرش، وقد دامت المناوشات القلمية بين الكاتبين ردحا طويلا ولا أدري هل توفر على جمعها وتحريرها أحد الأدباء السودانيين ففيها مادة غنية تضيئ جوانب هامة من حيوات الأدباء الثلاثة محمد والمجذوب وعبد الله الطيب.
بعد ذلك بعقد من الزمان تعرفت على المجذوب بصورة شخصية وعرفت أن علاقته بمحمد محمد على تنطوي على أنواع من الهزل والمزاح يريد بها المجذوب أن يستثير محمدا ويحمله على درجات من العنف الكلامي المستطاب.
شهدت طرفا من تلك المداعبات حين أقام الوزير عبد الماجد أبو حسبو (وزير الإعلام والثقافة حينها) أقام حفل عشاء في داره على شرف الشاعر نزار قباني فطلبوا مني أن اقرأ قصيدة من شعري واخترت ساعتها واحدة من قصائدي الزنزباريات والتي أدخلت فيها أداة التعريف على الفعل المضارع مثل قولي:
الله من ذلك اليقتل واليحيى ويصنع الدوار
فقال المجذوب لمحمد
-انظر إلى ولدنا هذا وكيف أدخل الألف واللام على الفعل.. هل لك علم بذلك؟
فانفعل محمد وقال له: أنت الذي ليس له علم يا جاهل.. والله لو شئت لجئتك بمائة شاهد على ذلك.
ولم تجمعني الظروف بالرجلين في مجلس واحد بعد ذلك المجلس لكن المجذوب كان في حنينه لصديقه المشاغب يخترع اخبارا عنه أيام غيابه عن السودان للدراسة في مصر وهي أخبار مختلقة لكنها غاية في الطرافة .
قلنا إن شانتير كان من ألمع الوجوه الثقافية في زماننا وكان في بداية أمره وجوديا مثله في ذلك مثل النور عثمان ولاشك أنني أحتذيت حذوهما حين انتميت إلى التيار الوجودي في مرحلة من مراحل حياتي قبل سفري للدراسة في فرنسا فهنالك وجدت ذلك التيار قد اختفى بريقه وصار جزءا من تاريخ الثقافة الفرنسية المتنوع الثراء كما اكتشفنا أن الكثير من الأخبار التي قرأناها عن الوجودية في صحف بيروت والقاهرة كانت بابا من أبواب التزيد والإغراب الصحفي.
جاء كمال شانتير إلى القاعة (ون او تو 102) بكلية الآداب بجامعة الخرطوم وألقى محاضرة رفيعة المستوى عن الوجودية وأمتعنا بل وتحدانا وهو يشرح الفرق بين قول الخواجات moral-immoral –amoral وتعريبها أخلاقي ولا أخلاقي وغير أخلاقي وهي فائدة اجتنيناها من خريج لجامعة القاهرة وكان مظنونا أن خريجي تلك الجامعة لا يحسنون الإنجليزية فأثبت العكس .
وكان ذلك بداية لمعرفة أعمق كان قطب رحاها صديقنا وصديقه بنفس الآن الأستاذ الفاتح التيجاني (عليه رحمة الله) رئيس تحرير صحيفة الرأي العام ووكيل وزارة الاعلام فيما بعد. وقد التقيت بكمال في مكان ما بالخرطوم عام 2015 فذكرته بنفسي ولكن دون فائدة فاستشهدت ببيت للمجذوب يصف فيه أحواله بعد انتقاله من الدامر إلى الخرطوم التي أنسته مدائح آله الشاذلية في مدح الرسول الكريم من قوله:
ومحا مديح الشاذلية ماحي
وفي ذلك العهد لم نكن من محبي عبد الله الطيب فقد كان ديوانه الأول ممقوتا لدى الكثيرين ولم يبدأ حبي لشعره إلا متأخرا بعيد رحلته إلى طشقند ومطالعه الجرولية اللاحقة:
يا دار مية ذات المربع الشاتي بين الربي والرياض السندسيات ..
وأوان ذلك وقفت على أطراف مما يكنه له الأدباء العرب من التقدير. أمل دنقل طلب مني المرشد لأشعار العرب وصناعتها وأستاذ جامعي عراقي يقول إن طريقته في تدريس العروض هي الأجدى والأفضل. وكانت روحه قد صفت وراقت ومع ذلك لم يصحبني في مهجري سوى ديوانه الأول وتعلمت أن أحبه واهتف معه :
- صاح الغلام الشايا
وغسل الكباية
ومنه أيضا قوله:
امس كنا في ام دجاج
بين موار العجاج
والعرشكول منيف واقف بين الفجاج
وأظنني تعلمت محبته من أخي علي المك ومن تلامذته المخلصين. ولم أجد في كوني شاعرا مجددا ما يمنعني من محبة شعره وامثولته في الحياة. فليس ضروريا أن نتماهى مع من نحب وقع الحافر على الحافر.
وكان هنالك التجاني يوسف بشير وفيه عذوبة ورقة جعلتني احفظ الجزء الاكبر من ديوانه .
وفي عام 1957 اجتمع لفيف من الادباء وعقدوا سمنارا لدراسته ونشروا أبحاثهم في كتاب لا زال مرجعا مهما لدارسي ذلك الشاعر العظيم. أما الآن فقد تلاعبت بديوانه المطابع البيروتية وحشدته بالأخطاء الطباعية وحتى الآن لم يهب لنجدته أحد وفي مؤتمر الشارقة الأخير التقيت بالفنان السوداني عامر نور وعرفت منه أنه يملك نسخة قديمة من ديوان إشراقة ربما تكون هي الطبعة الأولى القليلة الأخطاء وأنوي متى وجدتها أن اعرضها على شعراء الكتياب من أولياء الدم ليروا فيها رأيهم وأعني عبد القادر وعبد المنعم الكتيابي ومجتبى. فلنسأل الله التوفيق.
كان ذلك الوضع المميز للثقافة والمثقفين امتدادا لسياسة الزعيم الأزهري في تحرير السودان فقد كان يرى أن التحرير يبدأ بالمثقفين وكذلك النهضة في مختلف المجالات ومعروف عن عهده الزاهر أنه أعطى الفرصة لكل مهني في السودان لينال منحة دراسية ويذهب إلى بريطانيا يتلقى فيها العلم والمهارات سواء كان من المعلمين أو الإداريين أو سائقي القطارات. وبعد سنوات حكمه الأولى توقفت تلك السياسة وأصبحت البعثات حصرا على أوائل المتعلمين.
غاية القول إن الثقافة كانت عزيزة الجانب في الزمن الجميل فكانت دارها أقرب الدور إلى قصر الحكم وكان ناشئتها بين المدعوين للعشاء في منازل الوزراء والكبراء. ويذكرني ذلك بزيارة دنيس جونسون (مترجم موسم الهجرة الى الشمال) لزيارة السودان بدعوة من الزعيم الأزهري. ولم يكن هنالك برنامج دقيق للزيارة فظل الرجل محبوسا في القراند هوتيل بلا شغل ولا مشغلة حتى أضطره السأم لجمع حوائجه مقررا الرحيل.
و هنا بدأت التلفونات تتخابط - الصلحي لانقاذ الموقف واستدعاني المغفور له حسن أبشر لمؤانسة الرجل في الفندق، ويروي الصلحي أنه لم يأكل أو يشرب في ذلك النهار فمن محل عمله هرع للقراند بسيارة جيب أخذ فيها الضيف إلى ام ضوا بان وحمد النيل وآنسه ولاطفه وقشع عن وجهه غلالة الضجر السوداء. فتأمل كيف حقت علينا قولة كل عام ترذلون وكيف أبدلنا الله عن أولئك الأفاضل بأمثال ام صيقعون .
يلاحظ على حديثي هذا اقتصاره على الشعر دون بقية أبواب الثقافة السودانية وربما كان ذلك مفهوما على ضوء التقديم الذي يجده الشعر في الثقافة العربية وقد نبهني لذلك الاخ العزيز فتحي عثمان أحد محرري هذا السفر الرشيق فرأيت أن أضيف إلى شهادتي بعض الملاحظات والذكريات عن الفنون الأخرى وما كانت تجد من الرعاية والتقدير في حقبة الزمن الجميل.
كانت القصة والرواية محط الاهتمام من مثقفي الفترة باعتبار أنها أبواب غير معروفة في الأدب السوداني وربما كان أبلغ تعبير عن ذلك التقدير هو ذلك الذي نهض به الأستاذ الجليل عثمان على نور إذ اضطلع وحده بإنشاء مجلة للقصة تتابع أخبارها وتنشر جديدها وتعرف بكتابها من السودانيين وكل ذلك من جيبه الخاص، ولن نعرف أبعاد ذلك العمل الطوعي إلا إذا عرفنا أن الأستاذ لم يكن من ميسوري الحال وأنه كان يقتطع من رزقه القليل تكاليف الطباعة والتوزيع.
زارني بمكتبي بالخارجية على عهد النميري والزمن الجميل في نهايات عمره بالسودان وكنت على سابق معرفة به ولكنه كان قد تقدم في العمر وزادت مظاهر الرقة واللطف على محياه النبيل وكان يناديني محمدا باسمي الأول ويسألني هل هنالك من عباقرة الموسيقى من أنصح له باستماعه. ولم أكن اعرف الكثير عن ذلك الموضوع فقلت له عن الفرنسي رافيل فقال إنه يعرفه ثم دندن بالمقطع الرئيسي لعمله الموسيقي الشهير. ورويت له أطرافا عن التشيكيين إسماتانا ودفورجاك وانفعل كثيرا حين قلت له إن سمفونية الاول تتابع نهرا وتصور ما يجري على ضفتيه من أفراح العمل والحياة ولعل ذلك تأكيد على غرامه بالقصة حتى في الأعمال الموسيقية. ولقد كان ذلك آخر عهدي بذلك الانسان النبيل.
في بدايات استقلال السودان كتب الأستاذ خليل عبد الله روايته الشهيرة التي عنوانها "إنهم بشر" وتدور أحداثها في الحيز المكاني المعروف في امدرمان باسم فريق العمايا غربي ابكدوك وقد كانت الرواية مصدر فخر لسودانيي تلك الأيام وسرعان ما عمدوها كبداية للفن الروائي في السودان وأصبح كاتبها أحد أعمدة الكتابة الروائية في السودان ورائدها الأول ولكن يد المنون كانت أسرع في اقتطاف وردة حياته وكان رحيله مصدر ألم لكل متأدبي البلاد.
كاتب آخر اعتبره من الرواد الأوائل للكتابة القصصية في السودان هو الكاتب شوقي بدري الذي نشر في أوائل السبعينات عملا روائيا ممتازا نوهت به في عديد المرات وهو رواية "الحنق " ومحورها الرقيق المحرر الذي أطلقه الإنجليز من قيوده ولكنهم تركوه في الأحياء الطرفية يحاول إثبات ذاته بشتى الطرق انطلاقا من أعمال الفتونة (كبس الجبة) إلى أعمال الإجرام الصريح . كما أهتمت مجلة القصة بشباب الكتاب والنقاد وعلى صفحاتها النبيلة سطع نجم كتاب القصة السودانيين: الزبير وخوجلي شكر الله صاحبي مجموعة النازحان والشتاء كما لمعت أسماء عثمان الحوري، وكنا نعتبره عبقرية سودانية مبشرة ومحمود محمد مدني وعبد المنعم أرباب وكنت شخصيا اعتبره النجم الأكبر في عالم القصة ومن أجيال القصاصين الأول كان هنالك حسن الطاهر زروق ولم تمنعه نجوميته السياسية من تعاطي فن القصة والترويج له قبل غيره من الفنون وفي تلك الفترة أيضا طبعت رواية ملكة الدار محمد بعنوان "الفراغ العريض" التي لا زالت معاصرة باعتبارها كشفا عميقا لأغوار الذات النسائية السودانية وما تعاني المرأة من حياة ناقصة لا يحررها منها إلا الزواج مقترنا بالتقدم في العمر.
في تلك الأيام كان محور اهتمام كتاب القصة والرواية هو فقراء المدن من الذين سقطوا من ثقوب الغربال الاجتماعي الكبير وهم فئة أقرب ما تكون للبروليتاريا الرثة التي أفلح في تصويرها قدماء الاشتراكيين الروس أمثال جوركي في كثير من أعماله. ولكن المدينة السودانية وسكانها لم يجدوا ما يستحقون من الاهتمام ومن تصوير فني لأزماتهم ومشاكلهم مع الحياة المدينية الجديدة .
في تلك الايام المثيرة ظهرت أيضا مدرسة الخرطوم في فنون التصوير والتلوين مستمدة جاذبيتها من صوفية الأستاذ الصلحي الذي كان يحاضر ويعرض في ردهات الجامعة وفي القاعة رقم 102 التي لعبت أعظم الأدوار في تكوين الثقافة السودانية الجديدة. وكان الأستاذ الصلحي يحدثنا بلغة المتصوفة كيف كان يرى لوحاته في المنامات وكيف كان يتوضأ ليرسم اللوحة وكأنها باب من أبواب العبادة وكنا شديدي الإيمان بذلك الفنان وكان من أكثر الناس ترويجا لفنه وعظمته صديقنا الفنان المرهف محمد عبد الله الريح (حساس محمد حساس) الذي طفق يرسم بطريقته مستخدما ألوانه الترابية والخضراء التي كان يدافع عنها باعتبارها ألوان السودان الحقيقية .وعن طريق تلك التصنيفات جرى تعميد الصلحي أيقونة للفن الحديث في السودان..
وقريبا من عام 1966 تقاطرنا على باريس لنشهد معرضه الأول في مدينة النور ونقدم له كل ما بأيدينا من الدعم والاحتفاء.
لقد كان منتظرا أن ينتهي الزمن الجميل بخيبة أملنا في النميري وثورته ولكنه استمر على الساحة الثقافية بفضل رجل واحد توافرت له صفات الفهم العميق للثقافة والحرص على مصالح المشتغلين بها فاستطاع أن يبقي الجذوة مشتعلة صاحية حتى بعد خمود وهجها السياسي. ذلك الرجل الفذ هو الدكتور محمد عبد الحي الذي بفضله استمرت مهرجانات الثقافة تقام وتوفر للمبدعين فرصا غير مشروطة للعطاء والنماء. وتحت رعايته الحانية نشأت واستمرت مجلات ثقافية وطبعت كتب ودواوين ما كانت لترى النور لولا رعايته لحركة الثقافة وحدبه عليها.
تكالبت على الشاعر المبدع كل أصناف البلاوي موجهة إليه كل أصناف النقد والانتقاص مما أسقطه فريسة المرض الذي أسلمه إلى مفارقة الحياة مبكيا عليه من قبل عارفي أفضاله ومقدري شاعريته وفي تقدير الكثيرين لا يوجد من خدم الثقافة السودانية مثله وليس له من ضريع سوى الأستاذ محمود عثمان صالح الذي قضى هو الآخر بنفس داء القلب بعد عمر مجيد في خدمة الإبداع والمبدعين.
لفترة من الزمان انتمى عبد الحي إلى تيار الغابة والصحراء الذي بدأناه مع النور عثمان عقب لقائنا الأول بالعملاق الأوروبي ولقد أبلى عبد الحي أحسن البلاء في تأسيس الحركة وشرح مرتكزاتها ومضى أبعد من ذلك حين كتب لها مطولته الشهيرة المعروفة باسم العودة إلى سنار .
وقد حاول بعض الكتاب العودة بها إلى سنوات حداثته الشعرية مبتعدين بها عن تأثير الغابة والصحراء وليس ذلك سوى مغالطة محضة، الأدلة على بطلانها متوافرة لكل ذي عينين وبشهادة الشهود من معاصري الفترة. وأحب هنا أن أذكّر الغافلين أن محمدا بشهادته الشخصية قد أحرق أشعاره القديمة كلها وبدأ بداية جديدة في عهده الجامعي وأنا اعتبر ذلك شهادة كبرى لشاعريته وقلقه الفني الذي يحفزه للهجرة المستمرة بين المقامات الشعرية العالية.
صداقتي بمحمد منعتني من التعليق على خروجه من حركتنا والآن يمنعني رحيله المؤلم من التعليق باعتبار ذلك عدوانا على ذكراه لا يطاوعني قلبي على إتيانه. ولكنني في كل الأحوال اعتبر محمدا ركنا أساسيا في تيار الغابة والصحراء خاصة في ظل الغياب المقصود للنور عثمان عن محافل الحركة ومعاركها وكان له في ذلك عذره المعتبر. ولفترة طويلة كنا أنا ومحمد الممثلين الرئيسيين للحركة وبخروجه فقدت ُالشهية للاستمرار في التبشير بها أو الدفاع عنها ولم أعد لسيرتها إلا أوائل التسعينات حيث نشرتُ سلسلة من المقالات عن تشكل الحضارة السودانية الجديدة والتي نشرتها دار مدارك في كتيب بعنوان "في ذكرى الغابة والصحراء."
مسك الختام :
لو سئلت عن الشخصية الفنية الأكثر تأثيرا في حقبة الزمن الجميل لما ترددت في تسمية الفنان عبد الكريم الكابلي بوصفه الشخصية الأكثر تأثيرا على كامل الحقبة فقد جاء إلى دنيا الفن من بين صفوف المثقفين الموسوعيين متميزا عن الجميع بعمق ثقافته العربية والبريطانية مستوعبا التراث العربي ومتذوقا للإبداع الشكسبيري ومتسلحا بمعرفة عميقة بالتراث السوداني شكلت حتى اليوم معظم ما يعرفه الجيل عن التراث الشعبي. وتحلى الكابلي بذائقة شعرية رفيعة ومختاراته الشعرية من أروع درر الشعر العربي مضافا إليها ألحانه العذبة وصوته الرخيم وحسه الفكاهي منعدم النظير.
كان الزمن الجميل زمنا رائعا تمتعت فيه الثقافة السودانية بالرعاية والاحترام والقربى من دوائر الحكم والإدارة ولكنه ككل الأزمنة لم يخل من منغصاته وعيوبه وعلى رأسها صعوبة النشر الثقافي وارتفاع أسعاره، وبوسع الباحث وضع كتاب كامل في شرح الملابسات السعيدة التي أدت إلى نشر بعض الآثار الثقافية فقد نشر ديوان عبد الله الطيب ونار المجاذيب وديوان أمتي بقرار حكومي للجنة النشر التي أنشأها الوزير عبد الماجد ابوحسبو ولولاها لما رأت تلك الآثار أضواء المطبعة. وواضح اعتباطية ذلك القرار الذي جمع بين آثار متفاوتة سنا وتجربة في موعد واحد للصدور. وللشاعر صلاح أحمد ابراهيم قصص مماثلة في صعوبة نشر دواوينه البديعة اقتضت تدخلا مساعدا من الدكتور إحسان عباس مع الناشرين البيروتيين. والواقع أن هنالك قصصا مشابهة لكل الاثار التي حالفها الحظ ووجدت طريقها للنشر في الزمن الجميل وعلى رأسها " قصائد من السودان " الديوان المشترك للشاعرين تاج السر الحسن وجيلي عبد الرحمن.. إلا أن هنالك وجها للاختلاف بين الحقبتين هو مقدار الترحيب والتعليقات بل والدراسات التي كانت تحظى بها منشورات الزمن الجميل على حين تمر منشورات هذا الزمان دون تعليق ودون دراسة وتقييم.. وباعتقادي أن ذلك عائد إلى روح الاستقلال حيث راح الأفراد والجمهور يشيدون بنيان الوطن يقبلون على صناعة الوطن المستقل طوبة بعد طوبة وبوعي كامل بأنهم يبنون وطنا جديدا وذلك على عكس العصور اللاحقة حيث سبقت العروبة كل العالم إلى حياض العلم والمعرفة وحيث ادخلوا الاسلام في المباراة الحضارية فسبق الدنيا كلها إلى كل جديد. والفرق واضح بين أن تدخل المباراة الحضارية بنفسك أو تترك العروبة والإسلام يدخلانها باسمك ونيابة عنك بينما تنام ذاتك الحضارية أنت وبني قومك في عسل الأحلام باعتبار أن خولة بنت الأزور هي خالتك في الرضاع وجابر بن حيان زميلك في الصف.
حورب عبد الحي حربا لا هوادة فيها لكونه تقلد منصب وكيل وزارة الثقافة في عهد النميري وكان كثيرون من أدعياء المعارضة يرون في ذلك دعما للنظام لا يليق بمثقف طليعي. وفي ذلك مغالطة واضحة فإن مهام التنوير والبعث الثقافي هي تهديد لكل دكتاتور وتقليل من شأنه وإنهاك لقواه. وغريب أن يقال ذلك عن المجال الثقافي ولا يقال عن ألوف الموظفين والجنود والشرطة ممن يخدمون النظام بصورة مباشرة دون أن يتعرضوا للوم أو تثريب وقد كان ذلك الحال هو الحال مع الدكتور بشرى الفاضل لمجرد استلامه جائزة مستحقة من يدي أحد نواب البشير ومع رئيس إتحاد الكتاب لأنه استقبل رئيس النظام في منزله ومع الشاعر صلاح أحمد إبراهيم لاقترابه من النظام الاسلاموي في أول أيامه وقبل أن يعرف حقيقته وحين عرفها منا نحن أقرب أصدقائه إليه كانت يد الموت أسرع منا إليه رحمه الله وعطر ذكراه. وقد نالني بعض ذلك لكوني قبلت تكريما من أهل مدينتي(عروس الرمال) فقط لأن التكريم تم على يدي والي الولاية .
++++++


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.