الحديث عن "الديمقراطية السودانية" و"كأنها " صفة هوية "، هو ما ينفرد به الدكتور "حيدر ابراهيم على " بين علماء السياسة والاجتماع مؤخرا؛ حيث المألوف أن نتحدث عن "الديمقراطية في السودان" أو في أفريقيا ...الخ . ولكنه حتى بالحديث معه في ندوة حميمية مؤخرا حول كتابه الصادر بهذا العنوان (أواخر 2013)، وعن مركز الدراسات السودانية الذى يديره من الخرطوم والقاهرة، صمم على فكرته، وبدا واثقا من قوة حجته، عن أن مسيرة الديمقراطية في السودان لها سماتها الخاصة دائما، منذ أعقاب الحرب العالمية الأولى، وحتى آخر تمثلاتها مؤخرا ... وأن تواتر الوقائع التي يتضمنها كتابه الشيق يوحى بهذه السمات دون عناء .. مما يجعل القول ممكنا "بالديمقراطية السودانية " ..! ومن حسن حظ القراء أن يصدر كتاب "الدكتور حيدر ابراهيم" في هذا الوقت بالذات حيث تجرى في الخرطوم، محاولات عالية الصوت لإنقاذ "الديمقراطية السودانية" مما أصابها لأكثر من عقدين، في طرح جرئ " لوثبة ديمقراطية " عبر الحوار الوطني الموسع، وعقب إجراءات أكثر جرأة بالتخلص من بعض رموز الإعاقة الديمقراطية، سواء في الأمن أو التنظيم الأيديولوجى! لكن هذه الاجراءات، وفق منطق حيدر سوف تظل وكأنها ضمن فكرة حيدر نفسه عن "البرجماتية السودانية " التي عرفها مسار الحياة السياسية في السودان.. ولو مددنا هذا المنطق قليلا لقلنا أن الثقة إذن تظل محدودة في الاجراءات الجديدة، حتى تثبت مصداقيتها في المستقبل القريب. لكن الشعب السوداني، يدفع دائما برغبة صادقة في الممارسة الديمقراطية، ليس لأنه "ديمقراطي بطبعه "تلك الصفة التي يسخر منها حيدر، لكن لأن الواقع منذ ثورة 1964 يثبت أن ثمة دفعا مستمرا للعملية السياسية بل والديمقراطية في السودان، ولكن تتعدد الأسباب أمامها ليبقى "تعويقها" قائما، وفق ظروف عربية وأفريقية ودولية مستمرة في عصرنا... وإلا فمن يدرى مثلا بحقيقة ما تفجرت به الكتابات عن ظروف طرح المبادرات الجديدة، ليس فقط كأثر لمحاولة الانتفاضة الشعبية في الأشهر الأخيرة وفشلها لأسباب داخلية مفهومة، ولكن ما تردده المصادر المختلفة يأتي عن أثر الضغط الأفريقي والأمريكي على السواء ممثلا في زيارات مباشرة لسناتور أمريكي تارة أو تصريحات صريحة "لثابو مبيكى" مسئول المبادرات الأفريقية تارة أخرى حول ضرورة الحوار الوطني في السودان.. ومقابلة هؤلاء الضيوف دون مواربة للقوى السياسية السودانية وكأنهما هما أصحاب المبادرة الديمقراطية، وليس الرئيس البشير" ووثبته " الوطنية... هذا بينما تؤدي تحليلات أو مواقف قوي سياسيه أخرى إلى النظر للمبادرة كعودة لتجمع الحلف الإسلامي بلقاء الترابي والبشير بما يخدم المبادرات الأمريكية في المنطقة...! لاشك أن عوامل كثيرة تتدخل في أي حدث سيأسى عربي أو أفريقي، وبعضها أجنبي صريح، لكن ذلك لا يجب أن يجعل الوطنيين أو الباحثين يستسلمون لهذه الاعتبارات الخارجية المعوقة "للنمو الداخلي" للقوى الفاعلة على النحو الذى بتنا نعيشه في أكثر من بلد عربي وأفريقي خاصة بعد الحالة السيئة لمجتمعاتنا عقب ثورات حملت اسم "الربيع العربي" ... هنا تبدو أهمية المبادرة البحثية التي يقدمها حيدر ابراهيم في كتابه عن "الديمقراطية السودانية" لأنه منذ الصفحات الأولى وحتى خاتمته يبحث عن الواقع السوداني، ولا يكاد يذكر العالم المحيط بالسودان إلا في النذر القليل. يضع الكتاب القارئ منذ البداية أمام حالة التعثر المزمنة لمسار الديمقراطية السودانية، تتمثل عناصرها في: علاقة الدين بالسياسة والدولة والتشكيل الطائفي الديني للأحزاب الفاعلة أو ما يشير له البعض دائما عن حضور "السيدين" كرموز دائمة في العملية السياسية. وهناك ثانيا دور المؤسسة العسكرية أو الجيش في الحياة السياسية، وكيف يربى الكادر العسكري حزبيا منذ بداية أعمارهم، وهناك ثالثا: قصة الوحدة الوطنية وفشل إدراك التنوع والثقافات المتعددة، وما تبع ذلك من تمايزات جهوية وإثنية معوقة، وهناك رابعا: الفشل التنموي والأزمات الاقتصادية ... و يأسف الدكتور حيدر كثيرا لافتقاد الجهد النظري عند تلك القيادات السياسية التي لم تفرز قائدا فكريا أو سياسيا يكثف تلك المعوقات التي أشرنا إليها، ومثال "الهند" حاضر دائما في ذهن "حيدر" في التحليل العلمي الذى يتفق على ما يبدو مع مدركاته " الآخذة في الليبرالية" وباعتبار الهند نموذجا فعليا لمعالجات عميقة لمشاكل الديمقراطية القديمة والحديثة، بل ويتمثلها حيدر حتى في حياته "كزاهد"... وكأب لشابة مبدعة أسماها "أنديرا" منذ وقت مبكر! ويتابع "حيدر" موقفه التحليلي، وعدم ثقته في الثقافة الديمقراطية للقوى السياسية القائمة والمتفاعلة في السودان بشكل له منطقه الفعلي كرافض شخصيا للاحتواء السياسي ضمن هذه القوى، وإن كنت رجوته في ندوة عن الكتاب بالأهرام أن يراجع هذا الموقف لأنه لا عمل ديمقراطي دون المملكة السياسية أو العمل السياسي "المسئول" وليس بالضرورة "الحزبي"، لأن هناك ارتباكا دائما لدى قوانا المثقفة حول هذه المسألة. لكن نص حيدر يعطيه تبريرا فعليا للإحباط من العمل الحزبي القائم في التجربة، إلى حد الفشل أو الإفشال المتكرر لانتفاضات عظيمة عرفها السودان في 1964 و1985 على الأقل... يرى حيدر أن هذا "التعثر البرجماتي للسياسة الديمقراطية السودانية يسجل ضعف الإيمان بالديمقراطية عند القوى السياسية نفسها، ويسجل عليها مثلا الانضمام الدائم للنظم الدكتاتورية أو "المشاركة في هياكلها المزيفة " بل ومشاركة "قوى ديمقراطية" دائما في الانقلابات العسكرية منذ انقلاب نوفمير 1958 مع حزب الأمة، ثم مشاركة الحزب الشيوعي واليساريين عموما في انقلاب مايو 1969، ثم قيام الجبهة الاسلامية القومية بانقلاب يونيو1989، ثم مسارعة التجمع الوطني الديمقراطي نفسه إلى المشاركة في هيكل الحكم القائم في السودان حتى قبل طرحه لأية مبادرات ديمقراطية! وتعكس فصول كتاب "الديمقراطية السودانية " من زاوية أخرى معرفة "حيدر" الواسعة بالحركة الإسلامية وسلوكياتها في السودان في إطار نظرته العامة في الكتاب عن "برجماتية " الحركات السياسية، لتصبح الحركة الاسلامية أكثرها تمثيلا للظاهرة... ولابد أن يعرف القارئ أن "للدكتور حيدر" حوالى عشرة مؤلفات عن عوالم الحركة الاسلامية السودانية، بل والعربية من " أزمة الاسلام السياسي عام 1991، حتى " أنثروبولوجية الشَعر والحجاب" تحت الطبع! مرورا "بلاهوت التحرير" و"التيارات الاسلامية والديمقراطية، و"سقوط المشروع الحضاري للإسلاميين، و"مراجعات الاسلاميين السودانيين"، "وسوسيولوجيا الفتوى" ... وحتى "التجديد عند الصادق المهدى" ... ولعل هذه العناوين تعفيني مؤقتا من عرض محتوى أكثر من فصل في كتابنا أهمها "الاسلام والديمقراطية " الذى يحاصر فيه "برجماتية " "الشيخ حسن الترابي" بوجه خاص، وبراعته في التكيف والمهارة العالية في تطويع المبادئ لضرورات المواقف وليس إخضاع المواقف لشروط المبادئ، ولشد ما ينطبق ذلك على موقفه من الديمقراطية بوجه خاص... ثم يرصد "حيدر" الكثير من مواقف جبهة الترابي من الأحزاب والعسكريين، وثنائية الشورى والديمقراطية والبرلمانية... بما يحتاج لقراءة خاصة لخلاصات "حيدر" الهامة في هذا المجال. ويعالج "حيدر ابراهيم " ضمن معرفته بالإخوان المسلمين في السودان، أو ما عرف بالجبهة القومية الإسلامية، مسألة السمات المشتركة لهم في أنحاء الوطن العربي، وخاصة في مصر من حيث البرجماتية، وانتقالهم السريع إلى "أمميتهم" الخاصة وهى أيضا لأسباب براجماتية في النهاية، حيث لجأ "الشيخ الترابي" إليها ليخرج من قيادة جبهة الانقاذ المحلية برعاية " البشير" إلى المؤتمر الشعبي "العربي الإسلامي" الذى حاول به منافسة "إخوان مصر" .. ولا يبدو أنه وفق في ذلك، كما فشل إخوان مصر أنفسهم أن يكونوا "مصريين فحسب..! إن الكتاب يعتبر وثيقة هامة في التفكير السياسي السوداني الآن أكثر من أي وقت مضى، خاصة وأن الواقع السوداني مع أوائل عام 2014 يشهد موقفا جديرا بالتأمل إزاء تعقيداته المتصاعدة وليست القابلة للحلول السهلة... وقد قدم "حيدر إبراهيم" دون شك خلال هذا العمل قراءة فاحصة لحركة "الديمقراطية السودانية "، وكدنا نسلم معه بخصائصها الذاتية وكأنها " نسيج وحدها" في السودان، وهو عالم الاجتماع القادر على ذلك منذ حفر في الانثروبولوجيا السودانية بمناهج الألمان الدقيقة... ولكن هذا ما جعلني أكاشفه بأنه رغم ذلك أغرق في التحليل السياسي "لأبعاد الظاهرة الديمقراطية السودانية، عابرا معارفه العميقة عن الأوضاع الاجتماعية وتشكيلاتها، والحركات الاجتماعية المعروفة في التاريخ الاجتماعي السوداني مثل حركة المزارعين والعمال والمرأة ورموزها شهيرة في عالمنا العربي والأفريقي. لعل ذلك يجعلنا نطالبه بضرورة العودة لهذه الأبعاد أوالمنهجية في دراساته القادمة عن السودان... === [email protected]